التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ماذا تعرف عن بدع قريش في الحج والكعبة؟
لم يقف تحريف قريش والعرب للتوحيد إنما غيَّروا في العبادات ذاتها، وتحريفاتهم في العبادة كثيرة، ولكن سنكتفي في هذه المقال بالتحريفات الخاصة بالكعبة خصوصًا، أو بالحج عمومًا، وهو مرتبط بشكل أو آخر بالكعبة، ويمكن أن تكون هناك بدع من زمن خزاعة، لكنها أُقِرَّت من قريش بلا جدال.
أولًا: التحريف في التلبية:
روى مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلَكُمْ، قَدْ، قَدْ[1]» فَيَقُولُونَ: إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، يَقُولُونَ هَذَا وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ[2]!
ثانيًا: وقوف قريش، وكذلك سائر الحُمْس، في المزدلفة لا عرفة:
كانت قريش تقول: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم، وولاة البيت وقاطنو مكة، وليس لأحد من العرب مثل حقِّنا ومنزلتنا -وكانوا يسمُّون أنفسهم الحُمْس[3]- فينبغي لنا ألا نخرج من الحرم إلى الحِلِّ، فكانوا لا يقفون بعرفة، ولا يفيضون منها، وإنما كانوا يفيضون من المزدلفة؛ وذلك ما وضَّحه حديث أمِّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كَانَ النَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَكَانَ الْحُمْسُ يُفِيضُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، يَقُولُونَ: لَا نُفِيضُ إِلَّا مِنَ الْحَرَمِ»[4]. وهذا هو سبب نزول قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].
وأحيانًا يفرض الحمس على أنفسهم تشديدًا ما أنزله الله: فكانوا لا يستظلُّون أيام منى، ولا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محرمون، روى البخاري عَنِ البَرَاءِ، قَالَ: «كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فِي الجَاهِلِيَّةِ أَتَوْا البَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189][5]، وكانوا أيضًا ولا يطبخون السمن.
ثالثًا: النفرة من المزدلفة بعد الشروق لا قبله:
روى البخاري عن عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ، يَقُولُ: شَهِدْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: "إِنَّ المُشْرِكِينَ كَانُوا لاَ يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَفَهُمْ ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ"[6].
رابعًا: الطواف في ملابس مستعارة من الحمس، أو الطواف عريانًا، أو التخلُّص من ثياب الطواف بعد الانتهاء منه:
أمر القرشيون أهلَ الحلِّ ألا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، وكانت الحمس يحتسبون على الناس، يعطى الرجلُ الرجلَ الثيابَ يطوف فيها، وتعطى المرأةُ المرأةَ الثيابَ تطوف فيها، فإن لم يجدوا شيئًا فكان الرجال يطوفون عراة!
روى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا[7]؟ تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا، وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]»[8]، وكان الذي يرفض من الرجال أو النساء أن يطوف عريانًا يطوف في ثيابه التي جاء بها من الحلِّ، ثم يُلقيها بعد الطواف، ولا ينتفع بها هو ولا أحد غيره.
خامسًا: المكاء والتصدية:
ومما زادوه في عباداتهم المكاء والتصدية في المسجد الحرام وهو التصفيق والصفير؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35].
وَالْمُكَاءُ هو الصفير، يُقَالُ: مَكَا يَمْكُو إِذَا صَفَّرَ بِفِيهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ نَوْعٌ مِنَ الطَّيْرِ الْمَكَّاءُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، وَهُوَ طَائِرٌ أَبْيَضُ يَكُونُ بِالْحِجَازِ.
وَالتَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ مُشْتَقًّا مِنَ صَدَى الصَّوْت، وَلَا تُعْرَفُ لِلْمُشْرِكِينَ صَلَاةٌ، فَتَسْمِيَةُ مُكَائِهِمْ وَتَصْدِيَتِهِمْ صَلَاةً مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ.
والمفسِّرون مختلفون في سبب المكاء والتصدية؛ فبعضهم يقول إن هذه طريقة اخترعوها للعبادة، وبعضهم يفترض أنهم فعلوا ذلك بعد الإسلام للشغب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين عند قراءتهم للقرآن.
سادسًا: الاستقسام بالأزلام:
الأزلام جمع زُلَم، وهو القدح،{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} [المائدة: 3] قال ابن الأثير: طلب القسْم الذي قُسم له وقُدر، مما لم يُقسم ولم يُقدر، وكانوا إذا أراد أحدُهم سفراً أو تزويجاً، أو نحو ذلك من المَهام ضرب بالأزلام، وهي القداح، وكان على بعضها مكتوب: أمرني ربي، وعلى الآخَر: نهاني ربي، وعلى الآخر غُفْل، فإن خرج "أمرني" مضى لشأنه، وإن خرج "نهاني" أمسك، وإن خرج الغُفْل، عاد فأجالَها، وضرب بها أخرى، إلى أن يخرج الأمرُ أو النهي[9].
وضع الأزلام في الكعبة عند هبل:
ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: أَنَّ أَعْظَمَ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ صَنَمٌ كَانَ يُقَالُ لَهُ: هُبَل، وَكَانَ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ، مَنْصُوبٌ عَلَى بِئْرٍ فِيهَا، تُوضَعُ الْهَدَايَا وَأَمْوَالُ الْكَعْبَةِ فِيهِ، كَانَ عِنْدَهُ سَبْعَةُ أَزْلَامٍ مَكْتُوبٌ فِيهَا مَا يَتَحَاكَمُونَ فِيهِ، مِمَّا أُشْكِلَ عَلَيْهِمْ، فَمَا خَرَجَ لَهُمْ مِنْهَا رَجَعُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يَعْدِلُوا عَنْهُ.
تصوير إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام:
روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي البَيْتِ لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ بِأَيْدِيهِمَا الأَزْلاَمُ، فَقَالَ «قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَا بِالأَزْلاَمِ قَطُّ»[10].
سابعًا: الذبح على النصب:
قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْج: كَانَتِ النُّصُبُ حِجَارَةً حَوْلَ الْكَعْبَةِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، كَانَ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَذْبَحُونَ عِنْدَهَا.
فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ هَذِهِ الذَّبَائِحِ الَّتِي فُعِلَتْ عِنْدَ النُّصُبِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ يُذْكَرُ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ فِي الذَّبْحِ عِنْدَ النُّصُبِ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيمُ مَا أهل به لغير الله[11].
[1] أي حسبكم حسبكم. أي اقتصروا على التوحيد، وامتنعوا عن الشرك.
[2] مسلم: كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها (1185).
[3] الحُمْس قريش؛ لأنهم كانوا يتشدَّدُون في دينهم وشجاعتهم فلا يطاقون ابن منظور: لسان العرب، 6/ 57.
[4] البخاري: كتاب التفسير، سورة البقرة، (4248)، ومسلم: كتاب الحج، باب في الوقوف وقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، (1219) واللفظ له.
[5] البخاري: كتاب التفسير، باب قول الله {وعلم آدم الأسماء كلها} (4242).
[6] البخاري: كتاب الحج، باب متى يدفع من جمع(1600).
[7] التطواف: هو ثوب تلبسه المرأة تطوف به.
[8] مسلم: كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، (3028).
[9] ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى- محمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت، 1399هـ= 1979م، 4/ 63.
[10] البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى{واتخذ الله إبراهيم خليلا} (3174).
[11] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: بدع قريش في الحج والكعبة
التعليقات
إرسال تعليقك