الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إنَّ الله سبحانه وتعالى كانت له أوامر صريحة في القرآن الكريم بدراسة التاريخ، فقال على سبيل المثال: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾...
يقول الدكتور راغب السرجاني في مقدمة كتابه «قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط»:
«دائمًا في مقدمة كلِّ كتابٍ من كتبي أُنبِّه إلى قصور الأمَّة الإسلاميَّة في دراسة علم التاريخ بشكلٍ عام، وتاريخها الطويل بشكلٍ خاص! الواقع أنَّني دومًا مندهشٌ من إهمال الأمَّة لتاريخها، وتاريخ الإنسانيَّة، مع الأهميَّة القصوى لهذا العلم العظيم.
سِرُّ اندهاشي هو اهتمام القرآن الكريم بمسألة التاريخ، والحضُّ المستمرُّ والمتكرِّر بشكلٍ عجيبٍ من الله تعالى لعباده بشكلٍ عامٍّ على دراسة التاريخ، حتى إنَّ الله لم يجعل المسألة اختياريَّة؛ إنما وبَّخ الأقوام التي أهملت التاريخ، ولم تتَّعظ به، فقال على سبيل المثال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [غافر: 82]، فعدم دراسة التاريخ هو الذي أوقع الأمم في أخطاء فادحة أدَّت إلى هلاكها، ومِنْ ثَمَّ يُصبح من العبث أن تُهمل أمَّةٌ تاريخها، أو تاريخ الأرض عمومًا.
أيضًا المتدبِّر في القرآن الكريم يجد أنَّ الله دومًا يُقيم الحُجَّة العقليَّة الواضحة على كلِّ ما يريد، وحجَّته سبحانه لا تقبل جدالًا على وجه الحقيقة؛ لذا قال جل وعلا: ﴿قُلْ فَلِلهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: 149]، ومع ذلك لم يكتفِ ربُّ العالمين بذكر الحجج العقليَّة؛ إنما أتبع ذلك دومًا بذكر القصص الذي يدعم المعنى، فهو يعلم -سبحانه- أنَّ النفس البشريَّة تحتاج إلى قصَّةٍ واقعيَّةٍ لتترسَّخ الحقيقة في ذهنها. إنَّه يذكر -مثلًا- حقيقةً عقائديَّة، وهي أنَّ القلَّة المؤمنة تنتصر على الكثرة الكافرة، فيقول: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249]، لكنَّه لم يكتفِ بذكرها هكذا حقيقةً مجرَّدة، إنما دعمها بقصَّة طالوت وجنده المؤمن. وفَهِمَ ذلك الصحابة رضي الله عنهم؛ فعندما أراد صحابيٌّ جليل -هو البراء بن عازب رضي الله عنه- أن يشرح أعجوبة بدر التي انتصرت فيها القلَّة المؤمنة على الكثرة الكافرة، ربطها بالتاريخ كما فعل ربُّ العالمين في سورة البقرة، فقال البراء: كُنَّا أَصْحَابَ محمد ﷺ، نَتَحَدَّثُ: «أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَ مِائَةٍ»[1].
ثم إنَّ الله عز وجل لم يترك أمر أهميَّة التاريخ في كتابه للاستنباط غير المباشر؛ إنما كانت له أوامر صريحة بدراسة التاريخ، بحيث لا يترك للمؤمنين مجالًا للتكاسل، فقال على سبيل المثال: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 176]، وقال: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ﴾ [الأحقاف: 21]، وقال: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ﴾ [المائدة: 27]، وقال: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ [يس: 13]، وقال على لسان هود عليه السلام: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 69]، وقال على لسان صالح عليه السلام: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 74]، وقال على لسان مؤمن آل فرعون: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ [غافر: 30، 31]. هل هناك وضوحٌ أكثر من هذا؟!
إنَّ القصَّة في الواقع تُثبِّت القلب، وتُقنع العقل، وتُهدِّئ النفس؛ لذلك يقول الله تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120]، فإذا أردنا تثبيت أفئدتنا وأفئدة أولادنا في ظلِّ هذه الفتن الكثيرة، والشبهات الخطرة، فعلينا بالتاريخ؛ فهذا منهجٌ ربانيٌّ وطريقةٌ نبويَّة.
والعجيب أنَّ معظم الأمم تفهم هذه الأهميَّة للتاريخ، وتهتمُّ به، وتُنفق عليه الأموال الغزيرة، وتُفَرِّغ له من الجهود ما قد يُذهلنا كثيرًا! إنَّ المتاحف في أميركا -على سبيل المثال- تزيد على خمسةٍ وثلاثين ألف متحف (إحصائيَّة عام 2014)[2]! هذا رقمٌ مهولٌ حقًّا، فلا توجد مدينةٌ صغيرةٌ ولا كبيرةٌ إلا وهي عامرةٌ بعددٍ كبيرٍ من المتاحف التي تُذكِّر الأمَّة بتاريخها، وقد أحصيتُ هذه المتاحف في مدينةٍ صغيرةٍ نسبيًّا مثل كليڤلاند Cleveland فوجدتُها أربعةً وثلاثين متحفًا، ووجدتُها في بوسطن Boston ثلاثةً وستين متحفًا، أمَّا لوس أنچلوس Los Angeles فكانت الأعظم؛ إذ كان فيها مائتان وتسعة عشر متحفًا! وجدتُ -أيضًا- أنَّ بعض هذه المتاحف متخصِّصٌ بدرجةٍ عجيبة، ولقد زرتُ بنفسي عددًا كبيرًا من هذه المتاحف النادرة، فمنها ما يتناول فقط تاريخ زراعة القطن وتصنيعه، ومنها ما يهتمُّ بحياة أحد لاعبي الجولف، ومنها ما صُمِّم لدراسة موقعةٍ واحدةٍ في التاريخ الأميركي، بل إنَّني زرتُ متحفًا يجمع أخبار القراصنة ومجرمي البحار! إنَّه اهتمامٌ بكلِّ شاردةٍ وواردةٍ في تاريخ الأمَّة.
إنَّ بعضنا قد يظنُّ أنَّ الإنفاق على هذه المتاحف المتخصِّصة عبءٌ على الدولة، أو أنَّها صُمِّمت للباحثين المتخصِّصين فقط، ولكنَّ الواقع أنَّها تزرع الهُويَّة في عامَّة أفراد الشعب، وتدعم الإحساس بالذات، والفخر بالوطن؛ لهذا ليس عجيبًا أن تجد أفواج المدارس والجامعات تزور هذه المتاحف المتخصِّصة، ولقد زرتُ أثرًا قديمًا من آثار مدينة أوستن Austin في ولاية تكساس، وهو عبارةٌ عن مبنى الحكومة Texas State Capitol، وتعجَّبتُ لوجود رحلةٍ مدرسيَّة لأطفالٍ في السابعة أو الثامنة من أعمارهم يتجوَّلون في أروقة المبنى، ويسمعون شرحًا ميسَّرًا عن تاريخه! ولم ألحظ على وجوههم الملل أو الضجر مع كون المكان يخلو تمامًا من وسائل اللعب والترفيه. إنَّ هذا بلا جدال أحد أسباب قوَّة الدولة.
عندما أراد الرئيس الأميركي وودرو ولسون Woodrow Wilson أن يذهب إلى مؤتمر ڤرساي للسلام في باريس عام 1919م عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى اصطحب معه ثلاثة مستشارين فقط؛ كان أحدهم أستاذًا في التاريخ بجامعة هارڤارد هو تشارلز هاسكينز Charles Haskins [3]! هذا هو اهتمام أميركا بالتاريخ.
وما قلناه على أميركا ينطبق كذلك على بريطانيا، وفرنسا، واليابان، والصين، وكلُّ دولةٍ أرادت أن يكون لها مكانٌ بارزٌ على خريطة العالم. والواقع أنَّ اهتمام العالم بالتاريخ في نموٍّ مستمر؛ فعدد المتاحف في أوروبا مثلًا قد تزايد إلى أربعة أضعاف عددها في خمسينيَّات القرن العشرين، و-أيضًا- زاد عدد المتاحف في الصين بشكلٍ ملحوظٍ من 1722 متحف عام 2007م إلى 4721 عام 2017م[4]، والوضع في فرنسا وبريطانيا وغيرهما من الدول الكبرى لا يختلف عن ذلك كثيرًا.
هذا في جانب المتاحف، والأمر نفسه متحقِّقٌ كذلك في بقيَّة النشاطات الخاصَّة بالتاريخ؛ ولقد تابعتُ قائمة أكثر الكتب مبيعًا في أميركا أو أوروبا، فوجدتُها لا تخلو أبدًا من كتابٍ أو أكثر في التاريخ الإنساني، أذكر أنَّني في زيارةٍ لألمانيا وجدتُ الكتاب الأوَّل في قائمة المبيعات هو كتابٌ عن تاريخ القرون الوسطى في أوروبا، والكتاب الرابع كان يتحدَّث عن طريق الحرير؛ ذلك الطريق التجاري القديم الذي كان يربط بين شرق آسيا وجنوب أوروبا، وانقرض منذ أكثر من ثلاثمائة عام!
إنَّ هذا ليس انبهارًا بمنهجٍ غربيٍّ عجيبٍ لا نعرفه، فقد قَدَّمْتُ لهذه الإحصاءات بذكر اهتمام القرآن الكريم والمنهج الإسلامي بهذا العلم العظيم، ولكنَّه انبهارٌ في الواقع بطريقة تطبيق أمم الأرض لهذا الاهتمام بأشكالٍ عمليَّةٍ مفيدةٍ وممتعةٍ لعامَّة أفراد الشعب"[5].
[1] البخاري: كتاب المغازي، باب عدة أصحاب بدر (3741) واللفظ له، والترمذي (1598)، وابن ماجه (2828)، وأحمد (18578).
[2] Lord, et al., 2019, p. 123. INDEX \c 2 \e " "\f \* MERGEFORMAT Error! Index not allowed in footnote, endnote, header, footer, or comment.
[3] Kudrycz, Walter: The Historical Present: Medievalism and Modernity, Bloomsbury Publishing, 2011., p. 137.
[4] راشد، محمد جمال: علم المتاحف.. نشأته، فروعه وآثره، دار العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، 1441ه=2020م.صفحة 123.
[5] دكتور راغب السرجاني: مقدمة كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م.
التعليقات
إرسال تعليقك