التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ماذا تعرف عن حملة الدولة العثمانية على كريت (1666-1669م)، وما أهم أحداثها ونتائجها؟
الحملة الأخيرة على كريت، وفتح كانديا (1666-1669م):
بعد الانتهاء من الحرب مع النمسا وهدوء الجبهة الأوروبية، التفت الصدر الأعظم فاضل أحمد باشا إلى المشكلة المزمنة في الدولة العثمانية، وهي مشكلة جزيرة كريت! بدأت عمليَّات كريت العسكريَّة -كما مرَّ بنا- في عام 1645م، وفي غضون سنواتٍ ثلاث فُتحت معظم الجزيرة؛ ومع ذلك ظلت العاصمة كانديا مستعصيةً على الفتح. حوصرت المدينة بشكلٍ دائمٍ منذ عام 1648م.
انشغلت الدولة العثمانية في أزماتها الداخلية، وقامت البندقية بحصار الدردنيل، وأسرعت الدول الأوروبية بدعم المحاصرين في كانديا بالسلاح، والمال، والرجال، فطال الحصار حتى أرهق الدولة العثمانية. الآن، وبعد استقرار الأوضاع الداخليَّة، وتسكين جبهة النمسا، قرَّر الصدر الأعظم حسم مسألة كريت، وإغلاق ملفِّ البنادقة في البحر المتوسط بشكلٍ كامل. قرَّر فاضل أحمد باشا الخروج بنفسه إلى كانديا بحملةٍ بحريَّةٍ كبرى، وعزم على عدم العودة إلى إسطنبول إلا بعد فتح المدينة الحصينة. وصل الصدر الأعظم بأسطوله في 3 نوفمبر 1666م إلى مدينة خانيه Canea[1]. عسكر الجيش هناك طوال فترة الشتاء، وخلال هذه المدَّة دَرَسَ الصدر الأعظم وقيادات الجيش تحصينات الجزيرة وأعدُّوا خطتهم؛ ومع ذلك لم يتمكَّنوا من منع معوناتٍ فرنسيَّة، وبابويَّة، ومالطيَّة، وصلت إلى كانديا في فبراير 1667م[2].
بدأ الحصار المركَّز، والقصف المكثَّف، لمدينة كانديا في يوم 25 مايو 1667م[3]. استمر القصف عدَّة شهورٍ دون نتيجة، فتمَّ رفعه في 16 أكتوبر من السنة نفسها لدخول الشتاء. استُشهد من الجيش العثماني في هذا الحصار الأخير فقط ثمانية آلاف! لم يترك الصدر الأعظم الجزيرة؛ إنما عسكر هو وجنوده في خنادق تحت الأرض لعدَّة شهور. استأنف الجيش العثماني الحصار والقصف في العام التالي بدايةً من 30 يونيو 1668م، ليستمر إلى الشتاء دون نتيجة، ليتكرَّر سيناريو العام المنصرم، ومن جديد لم يرحل الصدر الأعظم من الجزيرة[4]!
في أول يونيو 1669م بدأ الحصار الأخير للمدينة. اشتدَّ القصف المتبادل بين الفريقين. وصلت في 19 يونيو 1669م معونةٌ فرنسيَّةٌ كبرى للبنادقة متمثِّلة في ستَّة آلاف جندي، تحت قيادة عددٍ من الأمراء، منهم فرانسوا الڤيندومي François de Vendôme[5]، وهو من عائلة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، وحفيد الملك الفرنسي الراحل هنري الرابع Henry IV of France[6]. التحمت الفرقة الفرنسيَّة في القتال مباشرة، وقُتِل قائدها الأمير فرانسوا بعد أيَّامٍ قليلةٍ من وصوله في 25 يونيو[7]! كان التصميم العثماني في هذه المرَّة كبيرًا. وصلت معوناتٌ صليبيَّةٌ أخرى في 3 يوليو[8]؛ ولكن القصف استمر دون توقف، مع معارك بحريَّة في الميناء. أخيرًا في 28 أغسطس أدرك قائد المدينة البندقي أن المدينة لن تصمد هذه المرَّة؛ ومِنْ ثَمَّ طلب التفاوض. وافق الصدر الأعظم فاضل أحمد باشا، وبعد مفاوضاتٍ وُقِّعت معاهدة استسلام في 5 سبتمبر 1669م، وبموجبها تُخْلَى مدينة كانديا من البنادقة وحلفائهم في خلال اثني عشر يومًا، ويتسلَّم العثمانيون المدينة بكامل سلاحها ومدافعها البالغ عددها ألف ومائة مدفع، على أن تُأمَّن حياة مَنْ تبقَّى من الصليبيين، ويخرجون سالمين بأموالهم وسلاحهم الخفيف[9]. دخل العثمانيون المدينة فاتحين في 27 سبتمبر 1669م[10]، لتنتهي الحرب، ويكتمل فتح الجزيرة بعد أكثر من أربعةٍ وعشرين عامًا من النزال!
لم يكن الثمن الذي دُفِعَ في سبيل فتح الجزيرة زهيدًا! مجموع الشهداء العثمانيين في الأعوام الثلاثة الأخيرة فقط وصل إلى ثلاثين ألف شهيد، أمَّا إجمالي الشهداء في المدَّة كلِّها فيبلغ مائةً وثلاثين ألفًا[11]! هذا من ناحية الطاقة البشريَّة المفقودة، أمَّا البارود، والسلاح، والسفن، والخسائر الاقتصاديَّة نتيجة الحرب والحصار، فهي أكثر من أن تُحْصى! لكن في المقابل فإن الإنجاز المتحقَّق كبير؛ فالآن، والآن فقط، صار شرق البحر المتوسط عثمانيًّا إسلاميًّا خالصًا. كانت كريت في يد البنادقة منذ أكثر من أربعة قرونٍ ونصف (منذ عام 1212م)[12]، وتُعَدُّ من أهمِّ مراكزهم العسكريَّة والتجاريَّة، ولم تكن تجارة المسلمين آمنةً قط في ظلِّ وجود هذه القاعدة الحصينة، وبالتالي كان لا بُدَّ من إنهاء وجودها إن آجلًا أو عاجلًا، خاصَّةً وأن البندقية عدوٌّ لا يهدأ، وحروبه متكرِّرةٌ مع العثمانيين في كلِّ مراحل الدولة، ولن يكون سقوط كريت في يد الدولة العثمانية منهيًا لهذه الحروب؛ ولكنه فقط سيحرم البنادقة من قاعدةٍ متقدِّمةٍ في المياه الإقليميَّة العثمانية. ستبقى كريت بعد هذا الفتح في أيدي المسلمين لأكثر من قرنين كاملين (إلى 1898م).
ينبغي قبل أن نترك هذه المسألة أن نُشِيد بالصدر الأعظم فاضل أحمد باشا الذي مكث في الجزيرة ثلاث سنواتٍ كاملة حتى أنهى فتحها؛ بل إنه ظلَّ ماكثًا فيها عدَّة شهورٍ أخرى ليُشرف على إعادة تحصينها بعد الخراب الذي لحق بقلاعها، وتثبيت قواعد عثمانية فيها تحميها من محاولات الاسترداد المتوقَّعة من الغرب، ولم يُغادر الصدر الأعظم الجزيرة إلا يوم 5 مايو 1670م[13]، بعد أن زادت مدَّة مكوثه في الجزيرة على ثلاث سنواتٍ ونصف! لقد كرَّس حياته في هذه الفترة لهذه المهمَّة، إلى درجة أنه اصطحب معه طوال هذه السنوات أمَّه المسنَّة عائشة خاتون التي رغبت أن تحيا حياة الجهاد مع ابنها[14]! ينبغي -أيضًا- أن نُشِيد بإدارة الوزير قرة مصطفى الميرزيفوني للدولة في أثناء غياب الصدر الأعظم، فلولا الاستقرار الذي تمتَّعت به الدولة في هذه الفترة، ولولا الإمدادات المتوالية التي كانت تأتي من إسطنبول، ولولا الرخاء الاقتصادي الذي سمح بتمويل مثل هذه الحملة، لَمَا كان من الممكن أن يصبر الصدر الأعظم على التواجد في كريت كلَّ هذه المدَّة، فهذا التناسق الجميل هو الذي كفل للمهمَّة أن تُنْجَز.
أخيرًا ينبغي أن نُشِيد بالجنود الأبطال الذين حقَّقوا هذا النصر بعد كلِّ هذه التضحيَّات. الحقُّ أنه بعد رؤية هذه الأرواح المبذولة في فتح جزيرة صغيرة لا تتعدَّى مساحتها تسعة آلاف كيلومتر مربع ندرك قيمة الدولة العثمانية التي وصلت مساحتها في هذا التوقيت إلى خمسة عشر مليون كيلو متر مربع! تُرَى كم من الأرواح بُذِل لكي يتكوَّن هذا الكيان العملاق؟! هذا -أيضًا- يُفَسِّر بقاء هذا الكيان الكبير لستَّة قرونٍ وأكثر، وبالأرقام تتبيَّن الحقائق!
بداية عهد الدايات في الجزائر (1671-1830م):
منذ دخول الجزائر في تبعيَّة الدولة العثمانية عام 1519م وهي من الولايات المهمَّة للغاية؛ وذلك بسبب قوَّة أسطولها، ومكانها الاستراتيجي بالقرب من السواحل الأوروبية. مثَّل الأسطول الجزائري إضافةً مهمَّةً للبحريَّة العثمانية، وما أكثر العمليَّات العسكريَّة التي نفَّذها هذا الأسطول ضدَّ الأساطيل الإسبانية، والإيطالية، وكذلك ضدَّ موانئ هذه البلاد؛ ممَّا أفاد الدولة العثمانية إفادةً جمَّة. كانت الدولة العثمانية تدير الجزائر عن طريق والٍ من طرفها، يُعاونه ديوانٌ من كبار رجال الدولة، بالإضافة إلى قوَّةٍ من الإنكشارية. كانت هذه الحكومة العثمانية تتعاون بشكلٍ وثيقٍ مع قادة الأسطول الجزائري، وهم يُعْرَفون «بالرُيَّاس» (جمع رَيِّس)، وفي ظلِّ هذا التناسق كانت الأمور الداخليَّة في الجزائر هادئة، والاستقرار ملحوظ[15].
أدخل العثمانيون ليبيا في 1551م، ثم تونس في 1574م في دولتهم، ومن الناحية الإداريَّة صارتا تابعتين لوالي الجزائر[16]، وهذا أعطاه قوَّةً كبيرة. في زمن مراد الثالث خفَّت قوَّة القبضة العثمانية على الولايات البعيدة، وبدأ مركز والي الجزائر يُخيف الحكومة لاتساع سلطته. فَرَضَ مراد الثالث نظامًا جديدًا لمواجهة هذا التطور، وهو نظام «الباشاوات»، وفيه فصل الجزائر، وتونس، وليبيا، عن بعضهم البعض، وعَيَّن على كلِّ ولايةٍ باشا يحكم لمدَّة ثلاث سنوات فقط، ثم يُغَيَّره للحدِّ الدائم من قوَّته. استمر هذا النظام من 1588 إلى 1659م[17]. كان النظام في أول الأمر ناجحًا؛ ولكن مع مظاهر ضعف السلطان في القرن السابع عشر، وفساد الإنكشارية، بدأت الأمور تسوء في الجزائر. كان انفلات الإنكشارية في الجزائر، وكذلك في تونس وليبيا، أكبر من ذلك الذي رأيناه في إسطنبول والأناضول؛ وذلك لبُعد الشمال الإفريقي عن الحكومة المركزيَّة. بعد الاضطرابات الشديدة التي عصفت بالدولة العثمانية بدايةً من عام 1644م زاد الانفلات الأمني في الجزائر.
انتهى الأمر في عام 1659م بانفراد الإنكشارية بحكم الجزائر، في فترةٍ عُرِفَت بعهد الأغوات، وهم قادة الإنكشارية، واستمر هذا العهد اثنتي عشرة سنةً فقط؛ أي إلى عام 1671م[18]. في هذا العهد زاد التنافس على قيادة البلد بين الإنكشارية والرُيَّاس (البحريَّة). في عام 1671م وصلت مراكز القوى في الجزائر إلى اتِّفاقٍ بتولية الأمر في الجزائر لرجلٍ تنتخبه مراكز القوى المختلفة، وسوف يُعْطَى لقب «داي» Dey، وهو مرتبطٌ بالحكومة العثمانية؛ ولكن ليس بالقوَّة التي كانت عليها الأمور قبل ذلك[19]. كان أول المنتخَبين هو الحاج محمد باشا، وهو من طبقة الرُيَّاس[20]. هدأت الأمور في الجزائر نسبيًّا، وامتزج الرُيَّاس بالإنكشارية، وكان هذا في صالح الولاية بشكلٍ عام؛ ولكنه كان يقود إلى إضعاف الارتباط مع الدولة العثمانية بشكلٍ أكبر. أدَّى نظام الدايات إلى الفصل التدريجي للجزائر عن الدولة العثمانية، ويمكن أن نقول: إن الجزائر في القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، كانت مرتبطةً «شكليًّا» فقط بالدولة العثمانية؛ بينما كانت تعيش حياة الاستقلال بصورةٍ شبه كاملة؛ وصلت إلى شنِّ الحروب، وعقد الاتفاقيَّات والمعاهدات مع الدول الأجنبيَّة، وقطع العلاقات، وكل ذلك دون الرجوع إلى الحكومة المركزيَّة في إسطنبول. استمر عهد الدايات بكلِّ سماته إلى عام 1830م، عندما احتلَّت فرنسا الجزائر[21].
[1] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/510.
[2] Setton, Kenneth Meyer: Venice, Austria and the Turks in the 17th Century, American Philosophical Society, Philadelphia, USA, 1991., p. 194.
[3] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. xlvii.
[4] أوزتونا، 1988 صفحة 1/510.
[5] Setton, 1991, pp. 223-224.
[6] Gaster, Moses: Bogomils, In: Chisholm, Hugh & Garvin, James Louis: The Encyclopædia Britannica: A Dictionary of Arts, Sciences, Literature & General Information, Cambridge University Press, Cambridge, UK, Eleventh Edition, 1911., vol. 3, p. 586.
[7] Haydn, Joseph & Vincent, Benjamin: Specimen Pages, Prospectus, & Opinions of the Press of Haydn's Dictionary of Dates, Edward Moxon and Co., London, UK, 1868., p. 40.
[8] Setton, 1991, p. 224.
[9] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/512، 513.
[10] Somel, 2010, p. xlvii.
[11] أوزتونا، 1988 صفحة 1/513.
[12] Lock, Peter: The Franks in the Aegean: 1204-1500, Routledge, New York, USA, 2013., p. 152.
[13] أوزتونا، 1988 صفحة 1/514.
[14] أوزتونا، 1988 صفحة 1/510.
[15] Abun-Nasr, Jamil M.: A History of the Maghrib in the Islamic period, Cambridge University Press, New York, USA, 1987., 1987, p. 160.
[16] التر، 1989 صفحة 275.
[17] الزيدي، مفيد: موسوعة التاريخ الإسلامي: العصر العثماني، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمان-الأردن، 2003م.، 2003 صفحة 6/96.
[18] عباد، صالح: الجزائر خلال الحكم التركي، المنهل، 2012 صفحة 199.
[19] Abun-Nasr, 1987, p. 160.
[20] الميلي، مبارك بن محمد: تاريخ الجزائر في القديم والحديث، مكتبة النهضة الجزائرية، الجزائر، 1384هـ=1964م، صفحة 3/186.
[21] انظر: دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 688- 692.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك