التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
مقدمات الفتنة زمن عثمان بن عفان مقال يبين فيه الدكتور سهيل طقوش الأحداث التي مهدت للفتنة الكبرى زمن الخليفة عثمان بن عفان، ودوافع أهل الأمصار لخروجهم
انتفاضة الكوفة
يُمكن التأكيد أنَّ ميل عثمان بن عفان إلى أسرته وانقسام الصحابة حول سياسته العامة، هزَّت أسس الشرعية التاريخية للخلافة[1]. وفي ظلِّ الأوضاع المضطربة في الكوفة تأكَّدت الريبة تجاه القيادة في المدينة.
الواقع أنَّ الكوفة احتضنت فاتحي العراق وفارس، واستوطن فيها أهل الأيام وأهل القادسية، وتعايش فيها -بشكلٍ متناقض- المحاربون العرب الأوائل وعناصر متعددة من مرتدين سابقين تابوا واشتركوا في معركة القادسية، ويُمثِّلون كبرى القبائل البدوية من اليمن، ومضر، ومذحج، وكندة، وتميم، وأسد[2]. وقد أُنيط بهم مراقبة المناطق المفتوحة في غرب إيران وشمالها، كما استقرَّ بعضهم في الري وأذربيجان، وكانوا يستبدلون مرةً كل أربع سنوات[3].
حاول عثمان بن عفان أن يُوجِّه طموح القبائل إلى الفتوح مع تزايد الهجرة وتجمُّع أعدادٍ كبيرةٍ من المقاتلة في الأمصار، وشهدت السنوات الأولى من حكم عثمان بن عفان حركةً واسعة في الفتوح رافقها وفرةٌ في الغنائم، وتمَّ استقرار المسلمين في الأماكن المفتوحة، وامتلكوا الأراضي فيها، وعلى الرغم من ذلك فقد ظلَّت فتوح أهل الكوفة محدودةً بالمقارنة مع فتوح أهل البصرة التي شملت أقاليم فارس، وكرمان، وسجستان، وخراسان[4]. ممَّا أدَّى إلى زيادة أعداد أهل العطاء فيها وتحسين أوضاعهم المادية، الأمر الذي نتج عنه هدوءٌ نسبيٌّ فيها[5]، على عكس الكوفة التي ظلَّت مشكلاتها المالية قائمة، وفشلت الإدارة في مواجهتها خلال ولاية كلٍّ من الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص.
هكذا مثَّل عهد عثمان بن عفان مرحلةً حسنةً للبصرة، فوضعها في منافسةٍ حقيقيةٍ مع الكوفة التي كانت عاجزةً عن كسب غنائم وفيرة وعن توسيع رقعة نفوذها، لكنَّ فتوحات الكوفة السابقة وماضي الكوفة العسكري كانا لا يزالان يجعلان من الكوفة -خلال هذه المرحلة- المركز المتقدِّم في العراق، وفي الوقت الذي كانت فيه البصرة هادئةً ارتفعت في الكوفة حركات الاحتجاج الأولى ضدَّ سياسة عثمان بن عفان، التي ارتبطت بشكلٍ خاصٍّ بالبنى الاجتماعية في الكوفة [6]، ذلك أنَّ سكان الكوفة كانوا يتمتعون بالعطاء بموجب النظام الذي أقرَّه عمر بن الخطاب، غير أنَّ مقدار العطاء كان يختلف من فئةٍ إلى أخرى؛ فقد كان عطاء أهل الأيام، وأهل القادسية مرتفعًا لأسبقيتهم بالمشاركة في الفتوح ودورهم الكبير فيها، في حين كان عطاء الروادف منخفضًا وبخاصَّةٍ المتأخرين منهم، وقد خلق هذا التفاوت تباينًا اجتماعيًّا واضحًا أضُيف إلى التباين القبلي الناجم عن تركيبة جيش الفتح ممَّا جعل الوضع في هذا المَصر يتوتَّر تدريجيًّا[7].
تفجَّر الوضع في الكوفة عام "33هـ= 653-654م" في إحدى جلسات سعيد بن العاص والي الكوفة العامَّة، وقد تسبَّب في هذا الوضع أهل الأيام والقادسية والقراء وزعماء العشائر[8]. فأثناء حديثٍ بينهم عن السواد والجبل وعن ثراء طلحة بن عبيد الله، تمنَّى صاحب شرطة سعيد بن العاص -عبد الرحمن بن خنيس الأسدي- لواليه: "والله لوددت أنَّ هذا الملطاط لك -يعني ما كان لآل كسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة-"[9]. ممَّا أثار حفيظة الحضور، وحوَّل النقاش إلى خلافٍ حادٍّ كاد يفضي إلى صراعٍ بين القبائل؛ عندما قام الأشتر وردَّ عليه: "تمنَّ للأمير أفضل منه، ولا تمنَّ له أموالنا، فقال عبد الرحمن: ما يضرك من تمنَّى حتى تزوي ما بين عينيك، فوالله لو شاء كان له، فقال الأشتر: والله لو رام ذلك ما قدر عليه، فغضب سعيد بن العاص، وقال: إنما السواد بستانٌ لقريش، فقال الأشتر: أتجعل مراكز رماحنا وما أفاء الله علينا بستانًا لك ولقومك؟ والله لو رامه أحدٌ لقرع قرعًا يتصأصأ[10] منه"[11]. وفي روايةٍ: "أتزعم أنَّ السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستانٌ لك ولقومك! والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيبًا إلا أن يكون كأحدنا، وتكلَّم القوم معه"[12]. ثم اعتدوا على صاحب الشرطة[13] ممَّا دفع أشراف الكوفة -الذين عارضوا سياسة هذه الفئة- إلى أن يُرسلوا إلى الخليفة يطلبون منه إخراج هؤلاء النفر الذين خلقوا الفتنة في بلدهم[14]، كما كتب الوالي إلى عثمان بن عفان يشرح له الأوضاع الصعبة التي تمرُّ بها الكوفة والتطورات اللاحقة فيها، وأكَّد له بأنَّ رهطًا من أهل الكوفة "يؤلِّبون ويجتمعون على عيبك وعيبي والطعن في ديننا، وقد خشيت إن ثبت أمرهم أن يكثروا"[15]، "وإني لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الذين يُدعون القراء -وهم السفهاء- شيئًا"[16]. فسيَّرهم الخليفة عثمان إلى بلاد الشام.
لقد خلقت سياسة عثمان بن عفان الإطار الملائم لتكثيف نشاط القرَّاء في الكوفة، واتساع دائرة اهتمامهم لتشمل -بالإضافة إلى القرآن- مسائل أخرى تهمُّ الحياة السياسية، فكوَّن هؤلاء مجموعةً متميزةً ذات مضمونٍ سياسيٍّ يختلف عن المضمون الديني؛ إذ إنَّ اختراق القرآن لبني الفكر الديني للحركة السياسية هو الذي مكَّنهم من تجاوز الدولة على أساس امتلاكهم للمرجعية الأولى والأساسية، وهي القرآن[17].
مهما يكن من أمر فإنَّ الأسماء التي ذكرتها روايات المصدر أثناء استعراضها لمثيري الشغب في مجلس سعيد بن العاص وأسماء المسيرين إلى بلاد الشام[18]، إنَ هؤلاء كانوا:
- من أوائل المقاتلة المقيمين قديمًا في الكوفة.
- من ذوي المركز القبلي الثانوي ولم يكونوا زعماء قبائل، وعلى الأكثر كانوا زعماء عشائر أو أفخاذًا من عشائر[19].
- من الناقمين على قريش[20].
- لم يكونوا جميعهم من القرَّاء.
تبدو رواية سيف بن عمر التي رواها الطبري[21] وذكرت: إنَّ معاوية بن أبي سفيان وصف هؤلاء بالشياطين، وبالأقوام التي ليست لهم عقول ولا أديان، وقد اندسوا بين الناس يملون عليهم ما يُريدون من آرائهم بهدف تفرقة المسلمين ونشر بذور الفتنة بينهم، وقد أثقلهم الإسلام وأضجرهم. غير واقعية؛ لأنها تُعبِّر عن وجهة نظر معاوية والأمويين بشأن السلطة والدين، ودور هؤلاء القبلي بعد تسلُّمهم الحكم أكثر ممَّا تُعبِّر عن الأفكار السائدة في مرحلة الحدث[22].
في عام "34هـ= 654-655م" استدعى عثمان بن عفان عماله إلى المدينة لبحث الأوضاع المتردية في الأمصار، وازدياد الشكوى والتذمُّر بين الناس، فاستغلَّ المعارضون في الكوفة والمتعاطفون مع المبعدين خروج سعيد بن العاص، واستدعوا هؤلاء للعودة، وتعهدوا لهم بعدم السماح للوالي بالعودة إلى الكوفة، وأعلموهم بأنَّه لا طاعة لعثمان على ما يُنكَر منه[23].
الواضح أنَّ هذه الحركة التي منعت عودة والي الكوفة إلى عمله هي مجرد حركة احتجاجٍ عادية ومحدودة لا تتَّسم بالإجماع، احترمها الخليفة عثمان بن عفان حتى لا يكون لهؤلاء عليه حجة، فعزل سعيد بن العاص عن ولاية الكوفة وولَّى مكانه أبا موسى الأشعري تلبيةً لرغبة المحتجين[24]؛ محافظًا بذلك -ظاهريًّا على الأقل- على مرجعية المؤسسة الحاكمة، وعلى سلطته الخاصة، والتقليل من أهمية الأمر الواقع عليه، والتسليم به، ممَّا ألحق ضررًا بمؤسسة الخلافة من واقع أنَّه حمل بذور الثورة العامَّة التي ستندلع في عام "35هـ= 565م" وستنتهي بمقتل عثمان بن عفان[25]. وقد حذَّر القعقاع بن عمرو قائد الجيش في الكوفة، وبالتالي صاحب القوة فيها من محاولاتٍ كهذه[26]، إلا إنَّه لم يكن يملك القوَّة المادية التي تُساعد القعقاع على مواجهة هذه الحركة، كما غادر الكوفة زعماء القبائل الذين عُيِّنوا عمالًا على أعمالها فانعدم الضغط القبلي الأساسي الذي كان يشكو أصلًا من خللٍ آنيِّ؛ لأنَّ النفوذ القبلي كان شبه مدمَّر في الكوفة[27].
دوافع أهل الأمصار للثورة على عثمان بن عفان:
اتسمت السنوات الأخيرة من خلافة عثمان بن عفان بتنامي موجة الاستياء والاحتجاج، فنشأت حالة من الأزمة الجديَّة تضاربت فيها المصالح بين طرفين؛ تمثَّل الأوَّل بالخليفة عثمان بن عفان وعمَّاله وإدارته، في حين تمثَّل الثاني بجمهور القبائل وبعض الصحابة وأبناء الصحابة، وذلك بفعل تطور البنية الاجتماعية والسياسية للمسلمين بعامَّة، بحيث لم تعد عملية الإثراء إساءةً لاستعمال السلطة كما كان الحال عليه في عهد عمر بن الخطاب، فتحوَّلت المناصب الإدارية إلى مكوِّنٍ أساسيٍّ لعملية تطوُّر الهيكل الاجتماعيِّ للمسلمين، وبالتالي إلى منزلةٍ اجتماعيةٍ خاصَّة لها حقوقها وأعرافها وسلوكياتها المتمايزة عن جمهور المسلمين، وتداخلت اتجاهات الإثراء والتملُّك مع اتجاهات استقلاليَّة آليَّة القرار السياسي عن جمهور القبائل في عمليةٍ كانت تقود بالضرورة إلى إنشاء شرعيةٍ اجتماعيةٍ مستقلةٍ ضمن الأمَّة الإسلاميَّة[28].
على هذا الأساس بنى ابن خلدون نظريته الاجتماعية التي رأى من خلالها سبب الثورة على عثمان بن عفان، وتتلخَّص في رغبة القبائل في تعديل وتغيير ميزان القوى لصالحها، فنفذ إلى جوهر القضية الاجتماعية داخل الأمة الإسلامية بعامَّة التي قادتها إلى النزاع السياسي الخطير أيَّام عثمان بن عفان. كانت القبائل تنظر إلى أنَّ فضل الفتوح يعود إليها، فإذا كانت قريش قد سادتها في البداية فهي لم تعد مستعدَّة الآن -بعد كل هذا الجهاد الذي جاهدته في سبيل الإسلام- أن تقبل بهذه السيادة، وأضحت ترى ضرورة التساوي معها، وأنَّ محاولات عثمان الحدُّ من تنامي نفوذ القبائل بتقوية قريش، جعلت القبائل غير مستعدة للتعامل معها على أنها الأدنى والأضعف[29]. "كان أكثر العرب الذين نزلوا الأمصار جفاةً لم يستكثروا من صحبة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا هذَّبتهم سيرته وآدابه... مع ما كان فيهم في الجاهلية من الجفاء والعصبية والتفاخر والبعد عن سكينة الإيمان، وإذا بهم عند استفحال الدولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار من قريش، وكنانة، وثقيف، وهذيل، وأهل الحجاز، ويثرب السابقين الأولين إلى الإيمان، فاستنكفوا من ذلك وعضُّوا به لما يرون لأنفسهم من التقدُّم بأنسابهم وكثرتهم ومصادقة فارس والروم، مثل: قبائل بكر بن وائل، وعبد القيس بن ربيعة، وقبائل كندة، والأزد من اليمن، وقيس بن مضر، فصاروا إلى الغض من قريش والأنفة عليهم والتمريض في طاعتهم، والتعلُّل في ذلك بالتظلم منهم والاستعداء عليهم، والطعن بالعجز عن السرية، والعدل في القسم عن السوية، وفشت القالة بذلك وانتهت إلى المدينة"[30].
إذًا كانت المشكلة سيطرة قريش من خلال سيطرة الأمويين على مقدَّرات الشئون العامَّة، وعودٌ إلى الجاهلية، ونزاع القبائل على السيادة، وأنفة بعضها من سيادة قريش، فأظهروا الطعن في ولاة عثمان بن عفان بل وفي الخليفة نفسه، واستغلَّ بعض أبناء الصحابة هذه القوى سلبًا وإيجابًا وفقًا للمصلحة العامَّة، أو لمصلحتهم الشخصية.
إذا كان تعليل ابن خلدون ينطبق تمامًا على وضع الكوفة الاجتماعي، فإنَّه لا ينطبق بالضرورة على الوضع الاجتماعيِّ العام في كلٍّ من البصرة ومصر؛ وذلك بفعل اختلاف ظروف دوافعهما للاشتراك بالثورة على عثمان بن عفان؛ فقد تعاطف البصريون مع الكوفيين من واقع الأجواء المشحونة بالانتقادات الموجهة لسياسة عثمان في البصرة؛ وهي التي تتحدث عن تسيير أحد قرَّائها -وهو عامر بن عبد القيس- إلى الشام[31]، بالإضافة إلى بعض البصريين المنتمين إلى السوط نفسه الذي انطلقت منه أحداث الكوفة[32]، والواضح أنَّه لم يكن هناك تنسيقٌ مسبقٌ بين البصريين والكوفيين، ولعلَّ وجود علاقة بين قرَّاء المصريين، تلك التي تتحدَّث عن مشاركة حرقوص بن زهير السعدي البصري إلى جانب ثوَّار الكوفة الذين اشتركوا في طرد سعيد بن العاص، هذا في الوقت الذي انحصرت دوافع المصريين في اتهام ولاتهم بالانحراف السلوكي وأحيانًا الشرعي مع رفض الخليفة عثمان تغييرهم، لذلك لا يُمكن تفسير حماس هؤلاء بالبنى الاجتماعية وحدها، كما لا يُمكن تفسيره بالدوافع الدينية ذات الإيحاء القرآني؛ بفعل أنَّ مقاتليهم يملكون وعيًا سياسيًّا ودينيًّا أقلَّ حدَّة[33]؛ فقد تأثروا بدعايةٍ كثيفةٍ شنَّها اثنان من أبناء الصحابة هما محمَّد بن أبي بكر، ومحمَّد بن أبي حذيفة، والمعروف أنَّ الأول قبع في المدينة في حين قبع الثاني في مصر واستولى على السلطة في الفسطاط بعد مغادرة الوالي عبد الله بن سعد بن أبي سرح أثناء حصار عثمان بن عفان، ممَّا شجع القوَّة المصرية المحاصرة للخليفة على أداء دورٍ بارزٍ في قتله[34].
لكن يبدو من خلال بعض الإشارات وتتبُّع أسماء الثائرين المصريين أنَّ نقمة المسلمين الأوائل الذين فتحوا مصر واستقروا فيها كانت أحد أسباب هذه الثورة على سياسة عثمان بن عفان، التي لم تُعطهم المكانة التي يستحقونها، وهم في ذلك لم يقصدوا عثمان بن عفان شخصيًّا؛ وإنما أرادوا زعزعة سيادة قريش من خلاله، إلَّا إنَّ هذه النقمة قد تطوَّرت بسرعة وتفاعلت مع الانتقادات العديدة الموجهة ضدَّ الخليفة عثمان، وأدَّت إلى تحرك المصريين في اتجاه المدينة[35]، وظلَّت بلاد الشام خارج نطاق الحركة، وحتى يتوحد الجميع تحت هدفٍ واحدٍ هو النَيْل من عثمان لخَّصوا اتهامهم له بعبارة: "بدَّلت وغيَّرت".
اشترك بعض الصحابة وأبناء الصحابة في الثورة على عثمان بن عفان، وأدَّى بعضهم الآخر دور الوسيط أو الدفاعي، وآل بهم الأمر أخيرًا إلى ترك الخليفة ليُواجه مصيره منفردًا، ومن بين الذين ساندوا الثوَّار: عمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وطلحة بن عبيد الله، في حين نفى عليٌّ بن أبي طالب ما نُسب إليه من أنَّه ساند الثوار، كما نفت عائشة ضلوعها في المؤامرة[36].
هكذا اجتمع في عهد عثمان بن عفان عاملان شكَّلا الأزمة التي عُرفت بالفتنة وقادت المسلمين إلى الاقتتال -لأوَّل مرَّة- فيما بينهم وقتْل خليفتهم الذي بايعوه جميعًا.
الأوَّل: هو الاتجاه الموضوعي المتعلق بالضرورة مع استقرار الحياة الجديدة في الأمصار، وتنامي "الأرستقراطية" القريشية التقليدية ماليًّا وسياسيًّا، وتحوُّلها إلى شريحةٍ اختصَّت بالثروة والقرار مستقلة بنفسها، متمايزة في وجودها المادي وبنائها المتعالي عن جمهور القبائل وعامَّة المسلمين.
الثاني: هو التنامي التدريجي لقوى القبائل في الأمصار، ولوعيها الذاتي، ولنزوعها إلى أن تتساوى مع قريش على أرضية الفضل الأكبر لنصرة الإسلام في بلاد الروم والفرس[37].
الواقع أنَّ العلاقة بين هذين العاملين كانت تصادمية؛ إذ لم يكن بالإمكان تحقيق أحدهما إلا على حساب الآخر، وأثبتت الأحداث أنَّ القوة كانت بيد القبائل بدليل قتل الخليفة على يد محاصريه، في الوقت الذي ظلَّ جميع الصحابة في الداخل وعمال عثمان بن عفان في الخارج ينتظرون نتيجة الصراع انتظارًا سلبيًّا[38]، على الرغم من المحاولات الخجولة التي قام بها بعضهم للدفاع عن الخليفة لا سيما عليُّ بن أبي طالب الذي أرسل ابنه الحسن من أجل ذلك[39]، مع الإشارة إلى أنَّ المحاصرين لم يُظهروا أيَّ احترامٍ للصحابة ربما باستثناء علي بن أبي طالب.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
__________
[1] جعيط: ص92، 93.
[2] المرجع نفسه: ص78، 79.
[3] الطبري: 4/246.
[4] الطبري: 4/300-316.
[5] ملحم: ص131.
[6] المرجع نفسه: الدوري: ص55.
[7] البكاي، لطيفة: حركة الخوراج، نشأتها وتطورها إلى نهاية العهد الأموي: ص13.
[8] انظر: من كان يحضر الاجتماع عند البلاذري في أنساب الأشراف: 6/151، 152.
[9] الطبري: 4/318.
[10] يتصأصأ: يخاف ويذل.
[11] البلاذري: 6/152.
[12] الطبري: ج4 ص323.
[13] المصدر نفسه.
[14] المصدر نفسه.
[15] المصدر نفسه، والبلاذري: 6/151.
[16] البلاذري: المصدر نفسه.
[17] البكاي: ص16.
[18] البلاذري: 6/151، 153، 157، والطبري: 4/318-323.
[19] جعيط: ص85.
[20] الطبري: 4/319.
[21] المصدر نفسه.
[22] جعيط: ص90.
[23] الطبري: 4/331، 332.
[24] المصدر نفسه: ص376.
[25] جعيط: ص95.
[26] الطبري: 4/331.
[27] المصدر نفسه، وجعيط: 96.
[28] إبراهيم: ص251.
[29] المرجع نفسه: ص259.
[30] مقدمة ابن خلدون: ص179.
[31] الطبري: 4/326-328.
[32] البكاي: ص20.
[33] جعيط: ص115.
[34] المرجع نفسه.
[35] البكاي: ص20.
[36] البلاذري: 6/202، 211، 212، 215، 216، وابن قتيبة: 1/40.
[37] إبراهيم: ص259، 260.
[38] إبراهيم: ص259، 260.
[39] البلاذري: 6/202، 211، 215، 216، وابن قتيبة: 1/40.
التعليقات
إرسال تعليقك