التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
القضاء على ردة بني حنيفة مقال لسهيل طقوش يحلل فيه أحداث موقعة اليمامة وأسباب ردة بني حنيفة ثم إعلان توبتهم انتهاء بزواج خالد من ابنة مجاعة
عقب تولِّي أبي بكر الصديق الخلافة أعلنت بعض القبائل رِدَّتها وامتناعها عن دفع الزَّكاة، الأمر الذي أدَّى إلى اضطراب الوضع الداخلي في داخل المجتمع الاسلامي، ممَّا دفع أبو بكر إلى محاربتهم وكلَّف بذلك خالد بن الوليد الذي أمره بالذهاب إلى بني حنيفة لمقاتلتهم.
الزحف نحو اليمامة:
عاد خالد من المدينة إلى البطاح بعد أن كلَّفه أبو بكر بقتال مسيلمة في اليمامة، وزوَّده بقوةٍ عسكريَّةٍ إضافيَّة ضمَّت جماعة من المهاجرين وممَّن شهد بدرًا والقرَّاء، فبلغ عدد جيشه ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألف مقاتل، كما زوَّده بتعليماتٍ سياسيَّةٍ وعسكريَّةٍ محدَّدة تنمُّ عن وعيٍ كاملٍ لرجل دولةٍ يُواجه تحديَّاتٍ كبرى[1].
الواقع أنَّ المسلمين لم يُواجهوا أيَّ قتالٍ ضارٍ خلال القضاء على المرتدِّين قبل اليمامة؛ حيث كانت القبائل التي هاجمت المدينة عقب وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومبايعة أبي بكر رضي الله عنه لا يدَّعي أحدٌ من أفرادها النبوَّة، ولا تطمع في شيءٍ إلَّا أن تُعفَى من الزكاة، وتضاءلت قوَّة طليحة بعد انفضاض القبائل عنه، ولم تكن أم زمل بقادرة على خوض معركةٍ ناجحة بمن اجتمع حولها من فلول تلك القبائل، وكان بنو تميم على خلافٍ داخليٍّ في الوقت الذي وهَّنت سجاح من قوَّة مالك بن نويرة فلم يكن بينه وبين خالدٍ رضي الله عنه قتال.
أمَّا الوضع في اليمامة فكان مختلفًا؛ فقد أنكر بنو حنيفة نبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم ووضعوا أنفسهم بمصافِّ قريش؛ فلها نبيٌّ ورسول ولهم نبيٌّ ورسول، كما كان لهم مكانةٌ بين العرب تُضارع مكانة قريش، وفيهم من الجند الشجعان أضعاف جند قريش، وهم إلى ذلك كتلةٌ متراصَّةٌ لا يفتُّ في عضدهم خلاف، ولا يضعضع من عزمهم تنافس، وليس بينهم تفاوت في العقيدة والجنس، فكانوا أولي بأسٍ شديد، كما انتصروا على جيشين إسلاميين أرسلهما أبو بكر رضي الله عنه لإخضاعهم؛ الأوَّل بقيادة عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، والثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه[2].
وصل خالد إلى أراضي بني حنيفة، وبعد أن درس الوضع الميداني وضع خطَّةً عسكريَّةً من شقَّين:
الأوَّل: إرباك العدو وإضعافه وتوهين عزائمه، فيما يُسمَّى في عصرنا بالحرب النفسيَّة،
وذلك عن طريق الإنذار والتهديد.
الثاني: الاصطدام المسلَّح به.
ففي ما يتعلَّق بالشقِّ الأول؛ فقد حاول استقطاب بعض أشراف بن حنيفة وطلب منهم التأثير على أتباع مسيلمة وسلخهم من جيشه عن طريق الترهيب والترغيب، لكنَّ محاولته فشلت في دقِّ إسفين بين بني حنيفة ومسيلمة، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها[3] فقد جاءت نتائجها الإيجابيَّة محدودةً جدًّا، وظلَّ بنو حنيفة متكتِّلين حول مسيلمة وقد نظروا إلى هذا الصراع من زاويةٍ قَبليَّةٍ محضة.
في ما يتعلق بالشقِّ الثاني فقد توغَّل في أراضي بني حنيفة وهو على تعبئة استعدادًا للِّقاء المرتقب مع مسيلمة، وكان هذا الأخير قد عسكر بعقرباء في طرف اليمامة عندما علم بزحف المسلمين جاعلًا ريف اليمامة وحصونها وراء ظهره، وعبَّأ جنوده البالغ عددهم أربعين ألفًا استعدادًا للمواجهة، وعسكر خالد في مواجهته، وتأهَّب الجمعان لخوض أشرس معركةٍ سمع بها العرب حتى ذلك الحين، يُعلِّق كلُّ طرفٍ مصيره بمصير ذلك اليوم، ولم يُبالغ أيٌّ منهما في تقدير هذا الأمر؛ فيوم اليمامة من الأيَّام الحاسمة في التاريخ المبكِّر للإسلام وفي تاريخ العرب.
معركة عقرباء:
ابتدأت المعركة بمبارزاتٍ فرديَّةٍ قبل أن يلتحم الجمعان في عدَّة جولات، وتعرَّض المسلمون في بداية المعركة لضغطٍ قتاليٍّ شديد ممَّا اضطرَّ خالدًا إلى تعديل خطَّته العسكريَّة، فأجرى تغييراتٍ جذرية في وضع الجيش من خلال تمييز المقاتلين حسب قبائلهم[4], ويُقصد به أن تمتاز كلُّ فرقةٍ عن أختها؛ أي تفترق عنها وتُقاتل منفردة، وقد هدف من وراء هذا التعديل أن:
- يُعرف بلاء كلِّ فرقةٍ على حدة.
- يعرف المسلمون من أبلى بلاءً حسنًا، ومن صمد منهم في المعركة، ومن ضعف وانهزم.
- إثارة التنافس بين المسلمين للقتال حتى أقصى مداه.
وفعلًا فقد أثارت هذه التغييرات القوَّة العصبيَّة والحميَّة الدينيَّة لدى المقاتلين المسلمين، فاشتدَّ التنافس بينهم، وبلغت الحماسة الدينيَّة الأوْج، فكلُّ فرقةٍ تُقاتل تحت رايتها وتودُّ أن تنال النصر وشرف الغلبة، فيندفع جنودها إلى الموت[5].
استمرَّ القتال في الجولة الأخيرة عدَّة ساعات كثر فيها عدد القتلى من الجانبين، وثبت بنو حنيفة لوقع السيوف ولم يحفلوا بكثرة من قُتِل منهم، فأدرك خالدٌ عندئذٍ أنَّ الحرب لا تخفَّ وطأتها ما بقي مسيلمة بين بني حنيفة، وأنَّ العدوَّ لا ينهزم إلا إذا قُتِل ولن تنتهي المعركة إلا بموته، لذلك شدَّد ضغطه القتالي، فاضطرَّ مسيلمة إلى التراجع ودخل حديقته مع عددٍ كبيرٍ من أتباعه وأغلق بابها لتخفيف الضغط، حاصر المسلمون الحديقة واقتحموها وجرى بداخلها قتالٌ ضارٍ، ولاحت لوحشي مولى المطعم بن عدي وقاتِل حمزة في معركة أُحُد -وكان قد أسلم بعدها- فرصةً انكشف مسيلمة خلالها أمامه فضربه بحربته فأصابه ووقع أرضًا، فانقضَّ عليه سمَّاك بن خرشة بسيفه وأجهز عليه[6].
شكَّل مقتل مسيلمة بداية النهاية لهذه المعركة الضارية، ووضع حدًّا لذلك القتال الشديد؛ إذ تزعزعت قوَّة العدوِّ وانهارت، واشتدَّت في المقابل قوَّة المسلمين ففتكوا بجنود مسيلمة فتكًا ذريعًا لم يترك لمجَّاعة بن مرارة الحنفي -الذي تولَّى القيادة بعد مقتل مسيلمة- الخيار، فأعلن استسلامه وطلب الصلح[7]، تكبَّد بنو حنيفة واحدًا وعشرين ألف قتيل، في حين تكبَّد المسلمون ألفًا ومائتي قتيل[8]، وتقرَّر الصلح على البندين التاليين:
- يُسلِّم بنو حنيفة نصف ما عندهم من الذهب، والفضة، والسلاح، والخيل، وربع السبي،
وحائطًا من كلِّ قريةٍ ومزرعة.
- يعصم المسلمون دماءهم على أن يدخلوا في الإسلام[9].
الواقع أنَّه لم تعرف الجزيرة العربية في تلك العصور موقعةً كان فيها ما كان في معركة عقرباء من دماء، لذلك أطلق المسلمون على حديقة مسيلمة -وهي حديقة الرحمن- اسم حديقة الموت، كما عُرِف هذا اليوم بيوم اليمامة[10].
ظهور اتجاهٍ معارضٍ للصلح:
لقي صلح (خالد – مجَّاعة) معارضةً من الجانبين الإسلامي والحنفي؛ فقد عارضه فريقٌ من الأنصار بزعامة أسيد بن حضير وأبي نائلة اللذَين تمسَّكا بوصيَّة أبي بكرٍ إلى خالدٍ رضي الله عنهما عندما أرسله لقتال بني حنيفة "إن أظفرك الله ببني حنيفة فلا تُبقِ عليهم". لذلك أشارا عليه برفض الصلح والإجهاز على القوم، لكنَّ خالدًا أبى الانصياع لهذه المشورة خاصَّةً أنَّ المسلمين أنهكتهم الحرب، وأنَّه أبرم صلحًا مع القوم لا يجوز نقضه فاقتنع الأنصار، وكتب خالد إلى أبي بكرٍ رضي الله عنهما بالصلح الذي أبرمه، فأجازه[11].
عارض سلمة بن عمير الحنفي -وهو أحد قادة بني حنيفة- الصلح وراح يُحرِّض قومه على القتال، لكنَّهم رفضوا الاستجابة له خاصَّةً أنَّ القتال كان قد أجهدهم، وتكبَّدوا خسائر فادحةً في الأرواح بحيث لم يبق سوى النساء والأطفال والشيوخ والضعفاء من الرجال[12].
عودة بني حنيفة إلى الإسلام:
حُشِر بنو حنيفة للبيعة والبراء ممَّا كانوا فيه، وجيء بهم إلى خالدٍ رضي الله عنه في معسكره فبايعوا وأعلنوا توبتهم من الرِّدَّة وعودتهم إلى الإسلام، ثُمَّ فُتحت الحصون وأُخرج ما فيها من السلاح والحلقة والكراع والذهب والفضة، فقسَّمه خالدٌ على الجند وعزل الخمس، فأرسله إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه مع وفدٍ من بني حنيفة تدليلًا على توبتهم فجدَّدوا إسلامهم أمامه[13].
زواج خالد من ابنة مجَّاعة:
بعد أن اطمأنَّ خالدٌ رضي الله عنه إلى النصر وأتمَّ الصلح وتسلَّم زمام الأمر، طلب من مجاعة أن يُزوِّجه ابنته، فوافق بعد تردُّد، وتعرَّض خالدٌ للنَّقد من جانب الخليفة، لكنَّه دافع عن نفسه وبيَّن وجهة نظره في هذا الزواج[14].
إنَّ قراءةً متأنيةً لكتاب أبي بكرٍ رضي الله عنه إلى قائده وردِّ خالدٍ رضي الله عنه عليه توضح لنا موقف كلٍّ منهما من هذا التطوُّر الحدثي.
ففيما يتعلَّق بموقف أبي بكرٍ رضي الله عنه فقد عاب على خالد أنَّه:
- فارغ النفس من الهموم لا يشغله ما كان حريًّا أن يشغل غيره من المسلمين ممَّن يقف في
موقفه.
- لم يحزن على قتلى المسلمين ودماؤهم لم تجف بعد، ولم يصرفه هذا الحزن عن التفكير في
الزواج والتعريس بالنساء استجابةً لعواطفه.
- خُدع عن رأيه حين صالح القوم بعد أن أمكنه الله منهم، وكان باستطاعته أن يستأصل
شأفتهم خاصَّةً أنَّه يخطب إلى الرجل الذي خدعه[15]، فيرتبط معه برباط المصاهرة بعد
الذي بدر منه[16].
تعليق خالد بن الوليد على موقفه
فيما يتعلق بموقف خالد:
- جاء دفاع خالدٍ رضي الله عنه عن نفسه حازمًا في لين، صريحًا في صدق، قويًّا في هدوء.
- إنَّ النصر ولو مع التضحية لا يُبقي في النفوس الكبيرة آثار الآلام ولواعج الأحزان، ولقد تَمَّ للقائد السرور بالنصر المؤزَّر، وقرَّت به الدار ببسط سلطانه على أعدائه.
- يُؤكِّد خالد رضي الله عنه ما يُبرِّر خطبته إلى هذا الرجل الذي خدعه حتى لا تندفع الأوهام الضعيفة في التظنُّن بالقائد الفذِّ كما وقع التظنُّن في زواجه بامرأة مالك بن نويرة من قبل، فهو يُعلن أنَّه قد خطب إلى رجلٍ هو سيِّد قومه فما يمنعه من أن يجعل الخطبة إليه وسيلةً من وسائل الاستقرار وتطييب النفوس، على أنَّ الخِطبة سعت إليه دون تخطيطٍ مسبق ولو عمل إليها من المدينة قصدًا لها ما كان عليه في ذلك من عتاب.
- أبدى خالد حزنه على قتلى المسلمين بشكلٍ واضح، وأنَّ هذا الحزن كان كفيلًا أن يردَّ الحياة إليهم لو كان حزنٌّ يردُّ الحياة إلى ميت، وكان كفيلًا أن يُخلِّد من كان من المسلمين باقيًا لو كان الله كتب البقاء والخلود لأحدٍ من الأحياء[17].
النتائج العامَّة لمعركة اليمامة
ولا بُدَّ أن نُشير في هذا المقام إلى النتائج العامَّة لمعركة اليمامة الشهيرة، فقد:
- أعادت الموازين إلى حجمها في الجزيرة العربية.
- أنهت أسطورة مسيلمة.
- أوقعت الرعب في قلوب بقيَّة المرتدِّين في الجزيرة العربية خاصَّةً في تهامة التي تجمَّعت فيها فلول ممَّن انضوى تحت قيادة مسيلمة من مدلج وخزاعة وكنانة بقيادة جندب بن سلمى المدلجي، وراحوا يجوبون المنطقة بين صنعاء ونجران. فأرسل إليهم عتابٌ بن أسيد -عامل أبي بكر على مكَّة- أخاه فاصطدم بهم في الأبارق وانتصر عليهم، وفرَّ جندب من أرض المعركة"[18].
- أظهرت الألمعيَّة القياديَّة التي اتَّصف بها خالد، التي ستتجلَّى في حروب الفتوح.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسيَّة.
ـــــــــــــــــــــ
[1] انظر: ابن أعثم: 1/28، 29.
[2] الطبري: 3/281.
[3] ابن أعثم: 1/29- 31.
[4] الطبري: 3/293.
[5] الطبري: 3/293، وسويد: ص188.
[6] الطبري: المصدر نفسه: ص293-295، وتاريخ خليفة بن خياط: ص57.
[7] الطبري: المصدر نفسه.
[8] المصدر نفسه: ص297، والبلاذري: ص102.
[9] المصدران أنفسهما: ص297، 298، ص100.
[10] الطبري: المصدر نفسه: ص294-297.
[11] ابن أعثم: 1/38.
[12] الطبري: 3/296.
[13] المصدر نفسه: ص300.
[14] انظر نص كتاب الخليفة إلى قائده ورد خالد عليه في المصدر نفسه، وابن أعثم:1/39، 40.
[15] إشارة إلى الخدعة التي نفَّذها مجَّاعة بعد انتهاء المعركة لإنقاذ ما تبقَّى من بني حنيفة؛
فقد ألبس النساء والذراري والعبيد السلاح وعرَّضهم للشمس فوق الحصون موهمًا خالدًا
أنَّها مملوءةٌ رجالًا. انظر: البلاذري: ص102، والطبري: 3/296.
[16] عرجون: ص201.
[17] المرجع نفسه: ص202.
[18] الطبري: 3/318-320.
التعليقات
إرسال تعليقك