د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
هل يجوز للمسلمين أن يهاجروا إلى دولة غير مسلمة؟ سؤال طرحة الدكتور راغب السرجاني في سياق الحديث عن هجرة الحبشة الأولى في كتابه (في ظلال السيرة النبوية -أهم مقتطفات المقال
عمومًا فإن في هجرة المسلمين إلى الحبشة بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم ما يُعَضِّد ما ذهبنا إليه من اختيار فقهي.
هل يجوز للمسلمين أن يهاجروا إلى دولة غير مسلمة؟
لقد كان بالمقدور ألا يُثار هذا التساؤل لولا وجود أحاديث ضعيفة لم تثبت صحَّتها، أو أنَّها صحيحة ولكن لها تأويلات مختلفة، وقد بنى بعضهم عليها أحكامًا خاصَّة.
فعَنْ جرير بن عبد اللهجرير بن عبد الله رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ بِالسُّجُودِ[1]، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ القَتْلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ العَقْلِ[2]، وَقَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا[3]»[4].
وأيضًا ما رواه سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ»[5].
فظاهر هذين الحديثين -بغضِّ النظر عن درجة صحتهما- أنهما يُحَرِّمان الإقامة بين أظهر الكافرين ومساكنتهم، ومن باب أولى عدم الهجرة إليهم.
ولعلَّ العلَّة فيما يظهر من ذلك أن الإسلام يأبى على معتنقيه أن يذلُّوا لغيرهم، وهو ما يمكن حدوثه حال الإقامة بين ظهراني غير المسلمين؛ فإن ذلك يُشْعِر المسلم بالوحدة والضعف، ويُرَبِّي فيه رُوح الذلَّة والاستكانة، وقد يدعوه إلى المهادنة لهم ثُمَّ متابعتهم في باطلهم، وهو ما لا يرضاه الإسلام.
أمَّا إذا انتفت تلك العلَّة، واستطاع المسلم المهاجر أن يُظْهِر إسلامه، ويعمل طبقًا لعقيدته؛ وذلك دون أن يخشى فتنة على نفسه أو أهله، أو كانت هناك ضرورة داعية إلى هذه الهجرة، فلا مانع حينئذٍ منها؛ خاصة إذا أُريد من ورائها نفعٌ للدعوة الإسلامية وعموم المسلمين.
ويمكن أن تؤوَّل الأحاديثُ السابقةُ على أن الإقامة المرفوضة هي الإقامة في بلاد المشركين المحاربِين، بدليل ذكر الحديث في موقف تَمَّ فيه قتال مع القوم.
أضف إلى ذلك أن الحديثين السابقين -كما يظهر من تخريجيهما- هما في حكم الضعيف، ومن ثمَّ فلا يُمكن أن يُؤخذ حكمٌ عامٌّ من خلالهما؛ خاصَّةً إذا تعارضا مع موقفٍ صحيحٍ من مواقف السيرة النبويَّة، وهو موقف الهجرة إلى الحبشة، وقد تمَّ بأمرٍ مباشرٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وزِدْ على ذلك أن كلمة «المشرك» لا يدخل فيها غالبًا الكتابي، وإنما تعني الوثني، مع إدراكنا الكامل أن اليهود والنصارى حرَّفوا دينهم، وأشركوا بالله عز وجل، ولكننا نتكلَّم هنا عن دلالة اللفظ، وما يعنيه في كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أجاز الإسلام للمسلم -كما هو معروف- أن يتزوَّج كتابية، يهودية كانت أو نصرانية، فكيف يُحَرِّم الإسلام إذن مساكنتهم مطلقًا بينما يُجيز للمسلم أن يتزوَّج كتابية تكون ربَّة بيته وأمَّ أولاده؟!
وعمومًا فإن في هجرة المسلمين إلى الحبشة بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم ما يُعَضِّد ما ذهبنا إليه من اختيار فقهي.
[1] اعتصم ناس بالسجود؛ أي قام المسلمون من أهل قبيلة خثعم بالسجود على طريقة المسلمين ليعرفهم الجيش المسلم فلا يقتلهم.
[2] أي أمر لهم بنصف الدية، وليست دية كاملة؛ لأنهم أقاموا في بلاد المشركين فعرَّضوا أنفسهم للقتل الخطأ.
[3] لا تراءى ناراهما؛ أي: ليس المقيم في بلاد المسلمين كالمقيم في بلاد الكفر، كما أنه ليست نار الكريم الذي يُضَيِّف عددًا كبيرًا من الناس كنار البخيل الذي لا يفعل ذلك.
[4] أبو داود: كتاب الجهاد، باب النَّهي عن قتل من اعتصم بالسُّجود (2645)، والترمذي (1604)، والنسائي (6982)، والطبراني: المعجم الكبير، (3837). وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 5/253، وقال أبو داود: رواه هشيم ومعمر وخالد الواسطي وجماعة لم يذكروا جريرًا. وقال المنذريُّ: أخرجه الترمذي والنسائي، وذكر أبو داود أنَّ جماعة رووه مرسلًا، وأخرجه الترمذي أيضًا مرسلًا وقال: وهذا أصحُّ، وذكر أنَّ أكثر أصحاب إسماعيل -يعني ابن أبي خالد- لم يذكروا فيه جريرًا، وذكر عن البخاري أنه قال: الصحيح مرسل، ولم يخرِّجه النسائيُّ إلا مرسلًا. انظر: العظيم آبادي: عون المعبود 7/219، والمباركفوري: تحفة الأحوذي 5/190، وصححه الألباني دون العقل، انظر: صحيح سنن أبي داود، (2645)، وذكره الألباني في إرواء الغليل حديث رقم (1207).
[5] أبو داود: كتاب الجهاد، باب في الإقامة بأرض الشرك (2787)، قال عنه الألباني في إرواء الغليل: سنده ضعيف، وله عنه طريق أخرى أشد ضعفًا منها أخرجه الحاكم (2/141، 142) عن إسحاق بن إدريس، حدثنا همام، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة مرفوعًا بلفظ: «لا تُسَاكِنُوا المُشْرِكِينَ وَلا تُجَامِعُوهُمْ، فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَلَيْسَ مِنَّا»، وقال: «صحيح على شرط البخاري»! ووافقه الذهبي في (التلخيص)، لكن وقع فيه: «صحيح على شرط البخاري ومسلم»! وذلك في الواقع ليس صحيحًا؛ فإن فيه إسحاق بن إدريس وهو متهم بالكذب، وقد ترجمه الذهبي نفسه في (الميزان) أسوأ ترجمة. ثمَّ ذكر الألباني له شاهدًا آخر رواه الحاكم، وذكر أن فيه بريدة بن سفيان الأسلمي وهو ليس بالقوي. انظر إرواء الغليل 5/32، 33 حديث رقم (1207)، ومع ذلك ذكره الألباني في صحيح سنن أبي داود، حديث رقم (2778)!
التعليقات
إرسال تعليقك