جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
أبيي برميل بارود يهدد وحدة السودان مقال بقلم محمد جمال عرفة، يعرض جغرافية أبيي وتاريخ الصراع بين المسيرية والدينكا نقوك، فما قصة قضية أبيي السودانية؟
ويصفها آخرون بأنها "كويت السودان"؛ لغناها بالنفط. ويعتبرها المراقبون "برميل بارود" يهدد بعودة الحرب الأهلية مجددًا إلى جنوب السودان.. إنها منطقة "أبيي" الواقعة في قلب السودان على الحدود بين شماله وجنوبه.
فبالرغم من أن اتفاق السلام -الموقع بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان المتمردة السابقة بالجنوب في نيفاشا عام 2005م، والذي أنهى حربًا أهلية استمرت 21 عامًا- نصَّ على وضع مؤقت للمنطقة لحين موعد الاستفتاء المقرر للجنوبيين في عام 2011م، فإن أبيي توشك على نسف هذا الاتفاق بعد المعارك الطاحنة التي شهدتها المنطقة بين شريكي الحكم (حزب المؤتمر والحركة الشعبية) منتصف الشهر الماضي، وقتل فيها عشرات الجنود.
وسبق لهذه المنطقة أن نسفت اتفاقات سلام سابقة لتوحيد السودان قبل عام 2005م؛ حيث كان لها أثر كبير في انهيار اتفاقية أديس أبابا عام 1972م، وكادت أن تعصف بمفاوضات السلام في ضاحية نيفاشا بكينيا في عام 2004م.
أبيي.. الموقع الجغرافي والمساحة
ورغم أن أبيي لا تتعدى 1% من مساحة السودان ككل، والتي تقدر بـ 2.5 مليون كيلو متر مربع، و3% من مساحة الجنوب، فإن أهميتها تنبع من كونها عبارة عن مثلث غني بالنفط والغاز الطبيعي والمعادن والمياه.
ويتبع "مثلث أبيي" إداريًّا ولاية جنوب كردفان، لكنه يمتد جغرافيًّا لداخل ولاية بحر الغزال بالجنوب. وسُمِّي "مثلث أبيي" لأن المنطقة أشبه بمثلث يلمس 3 ولايات؛ فمن الناحية الشرقية يحد ولاية الوحدة، وجنوبًا ولاية شمال بحر الغزال، وغربًا ولاية جنوب دارفور.
وتقع هذه المنطقة تحديدًا في الجزء الجنوبي الغربي من ولاية غرب كردفان سابقًا، والمنطقة الجنوبية الغربية لولاية جنوب كردفان حاليًا، بين خطي عرض 30.4- 11.5 غربًا، وخطي طول 27.10- 30 شرقًا، في مساحة تقدر بـ 25 ألف كم مربع.
وتنتشر فيها ثلثا حقول النفط بالسودان والذي يبدأ شرقًا بحقلي "شارف وأبو جابرة"، منتهيًا بحقول "هجليج وبليلة".
ويرى المراقبون أن النفط يعتبر أحد أهم أسس الصراع الحديث بين سكان المنطقة من جهة وأطراف حكومة السودان (حكومة الشمال) وحكومة الجنوب من جهة، ومصدرًا آخر للتنافس الدولي، خصوصًا من جانب الولايات المتحدة.
صراع سكان أبيي
تسكن منطقة أبيي بشكل أساسي قبيلتان؛ إحداهما عربية (المسيرية) المعروفة باسم "المسيرية الحمر بدنة العجايرة"، والأخرى إفريقية هي (الدينكا)، المعروفون بـ (دينكا نقوك).
وعندما رسم المستعمر الإنجليزي حدود مديريات السودان بعد سقوط الدولة المهدية، طالب أهالي أبيي -وعلى رأسهم زعماء (دينكا نقوك)- إلحاق المنطقة بجنوب كردفان في عام 1905م.
وشهدت هذه المنطقة صراعات بين القبائل الإفريقية الوثنية الجنوبية والقبائل العربية المسلمة، وشنَّ كل منهم غارات على الآخر، في ظل صراع على أماكن الرعي والمياه.
لكن الصراع بدأ يأخذ طابعًا سياسيًّا حينما سعت حركة التمرد الجنوبية سابقًا (الحركة الشعبية) بزعامة قائدها الراحل جون قرنق؛ لضم بعض أبناء المنطقة لحركته، فأصبحت أبيي منطقة نزاع سياسي بعد أن كان قبليًّا أو رعويًّا.
ولهذا تحول النزاع بين الدينكا والمسيرية إلى نزاع بين شريكي الحكم حاليًا، وعندما بدأت المفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية قبل سنوات كانت أبيي من أشد مناطق الخلاف حساسية، الأمر الذي جعلها تنفرد ببروتوكول خاص (2004م) ضمن بروتوكول ماشاكوس، ثم ضمن بنود اتفاقية نيفاشا (2005م)؛ حيث قضت الاتفاقية بمنح المنطقة حق الاستفتاء على تقرير مصير تبعيتها للشمال أو الجنوب.
أبيي.. خلافات التقسيم والترسيم
ثم تشكلت لجنة لترسيم حدود المنطقة، والنظر في وثائق الطرفين لحسم موضوع تبعيتها في الفترة ما قبل الاستفتاء، عُرفت باسم "لجنة الخبراء الأجانب".
وأفتت هذه اللجنة بتبعية أبيي للجنوب، متجاوزًا بذلك حدود المديريات الموروثة بعد الاستقلال عام 1956م، والتي كانت مرجعًا أساسيًّا بنيت عليها اتفاقية نيفاشا في ترسيم حدود الجنوب، وهو ما اعتبرته الحكومة مبررًا لرفض تقرير اللجنة باعتبارها "تجاوزت صلاحياتها".
وأيضًا من أسباب رفض الحكومة لقرار اللجنة أنه كان على رأسها المبعوث الأمريكي للسودان السناتور جون دانفورث، والذي تتهمه الخرطوم بأنه منحاز للجنوب، معتبرة أن موقفه جاء سياسيًّا أكثر منه تحكيميًّا.
وبجانب الرفض الرسمي، أعلنت قبائل المسيرية رفضهم للقرار، ووصفوه بأنه محاولة لانتزاع أرضهم التي استوطنوها قبل أكثر من 300 عام، قبل مجيء الدينكا نقوك الذين ألجأتهم حروبهم مع القبائل الزنجية، بل حتى مع فروع الدينكا الأخرى إلى الاحتماء بهم في هذه المنطقة.
ويقول المسيرية إنهم استضافوا قبيلة الدينكا، وتعايشوا معهم في سلام طيلة تلك القرون حتى اندلعت حرب الجنوب الأخيرة، فانضم بعض الدينكا لحركة التمرد الجنوبية.
بالمقابل يقول أبناء "دينكا نقوك" إن أجدادهم هم أول من استوطن المنطقة، وإن المسيرية جاءوا لاحقًا بعد استيطان أجدادهم. ولكنهم لا يقدمون دليلاً واحدًا على ذلك، بينما يقدم المسيرية دلائل تاريخية متمثلة في معارك خاضوها في تلك المنطقة مع سلاطين كردفان في القرن الثامن عشر.
ويقول الدكتور أبو القاسم قور حامد في دراسة حول "الأبعاد الاجتماعية والاستراتيجية لمنطقة أبيي" صدرت في يناير 2006م: إن أبيي التي أضحت بؤرة توتر استراتيجي واجتماعي، يسكنها في الجزء الشمالي عدد كبير من القبائل مثل عرب المسيرية الحمر (العجايرة) الذين يتوغلون إلى الجنوب، وقبائل المعاليا وهي مجموعة ريفية تعيش عند الأطراف الشمالية وبعض القبائل الأخرى مثل البرقو والبديرية والداجو والفلات، لكن عرب "المسيرية الحمر" و"الدينكا" يمثلون الغالبية العظمى لسكان هذه المنطقة.
سيناريوهات أبيي
وبعدما كانت هناك آمال كبيرة على أن يجمد اتفاق شريكي الحكم الوضع في أبيي لحين موعد استفتاء الجنوبيين المقرر عام 2011م، لكن الوضع أصبح متوترًا للغاية بعد المعارك الأخيرة يوم 14-5-2008م.
ويطرح مراقبون ومحللون سودانيون عدة سيناريوهات للوضع في أبيي:
1- أن يتطور الصراع المسلح المتقطع بين قبيلتي الدينكا والمسيرية، ومن خلفهما جيش الخرطوم والجيش الجنوبي، إلى صراع دائم يعيد حرب الجنوب، ويزيد من خطر هذا الاحتمال أن معارك أبيي الأخيرة شهدت قصفًا جنوبيًّا لحاميات الجيش السوداني للمرة الأولى منذ توقف الحرب.
2- أن تحاول حكومة الخرطوم وحكومة الجنوب التمسك بالسلام شكلاً دون تحرك لوقف تداعيات المصادمات القبلية؛ بما يؤدي لتنامي حركات التمرد والعصيان بين أوساط عرب المسيرية وبين أوساط الدينكا أيضًا.
والخطورة هنا قد تنبع من احتمالات نشوء اتحادات بين القبائل؛ لتتسع دائرة النزاع العربي- الإفريقي في المنطقة، وخاصة أن هناك مصالح غربية في تغذية الصراع.
3- أن تنجح مساعي حكومة الوحدة الوطنية بدعم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في السيطرة على السلاح، وتوفير الأمن والمشاريع التنموية للمواطنين، فيقبل المسيرية والدينكا العيش بسلام في حالة انفصال جنوب السودان عن شماله أو عدم انفصاله.
ويتفق أغلب المراقبين على وصف منطقة أبيي بأنها "برميل بارود"، ويحذرون من أنه إذا سعى كل طرف لحسم تبعية المنطقة له عسكريًّا، فربما تُفجر أبيي حربًا أهلية جديدة، وحينها قد تمتد الحرب لجميع أنحاء السودان.
المصدر: موقع إسلام أون لاين.
التعليقات
إرسال تعليقك