ملخص المقال
روعة الجمال في الخطاب الإسلامي مقال بقلم صخر الغزالي، يظهر فيه ملامح الجمال في الخطاب الإسلامي، وأثر غياب روعة تعاليم الإسلام على المجتمع المسلم
الجمال هبة ربانية, أودعها الله كل شيء في الوجود, لتظهر محاسن الأشياء, وجعل الله الجمال محبوبًا للنفوس,؛ لأن الجمال هو "الرضا التام عن الشيء", وجمال الأشياء سبب في الرغبة فيها, والبحث عنها والتطلع إليها, والجمال ليس محصورًا في الأشكال الظاهرة فقط، فهذه نظرة قاصرة للجمال, بل يتعداه إلى أبعد من ذلك بكثير, فكل شيء في هذا الوجود قد أودع الله -سبحانه- فيه مَسحة من الجمال, تُظهر روعة الإبداع الإلهي في تكوينه وحُسن صنعته.
فالأشكال والمظاهر جزء من الجمال الذي أبدعة الله -تعالى- الذي قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4], إلا أن الجمال أيضًا موجود في كل شيء يحيط بنا ونتعامل معه من حولنا, ما دام أن هناك شيئًا اسمه "قبيح وسيئ"، فلا بد أن يكون لهذا القُبح والسوء وجهٌ حسن يُظهِر الجانب الآخر فيه.
تأمل معي سائر الأخلاق الكريمة, ما هي إلا صفات وخِلال حميدة تعشقها النفوس وتحبها, وما ذاك إلا لجمالها وروعتها التي تكسو صاحبها المهابة والإجلال والحب والاحترام, ولم يتبين جمال الأخلاق إلا عندما عَرف الناس سيئ الأخلاق ومنكرها؛ لذلك قال القائل:
الضد يُظهر حسنه الضـد *** وبضـدها تتبين الأشيـاء
ومن أروع ملامح الجمال في هذا الوجود الذي وهبه الله -تعالى- للبشرية هو دين الإسلام بتعاليمه الراقية الرائعة, والتي إذا تأمل فيها المتأمل سينبهر انبهارًا عظيمًا لروعة الجمال فيها, في كل نواحيه التي دعا إليها؛ وذلك لأن الإسلام كان -ولا يزال- هو الحادي للأخلاق والقائد لها, يتجلى ذلك في قوله r: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
فمن تلك المظاهر الجمالية الرائعة في الإسلام, تعاليمه التي جاء ليُرسي بها معالم الحق, والعدل, والأخلاق, والتسامح، ورفع الظلم والجور و...، وكلها تسير في موكب الجمال لهذا الدين العظيم.
فحديث الإسلام عن الحقوق وعدم التعدي أو الاعتداء على الآخرين, ما هو إلا لمحة جمالية في حفظ الحق لصاحبه ورفع الظلم عنه، وحتى لا تصبح العلاقة بين الناس علاقة أشبه بحياة الغاب "القوي يأكل فيها الضعيف بلا رحمة"، فتأمل الجمال العائد جرَّاء ذلك من حياة طيبة ومحبة وإخاء.
وحديث الإسلام عن حفظ الأعراض وعدم التعدي على عرض المسلم أو دمه أو ماله, ما هو إلا حديث عن جمال العلاقة بين المسلم وأخيه، والتي قِوامها الاحترام المتبادل وحفظ الأخ حق أخيه.
وحديث الإسلام عن الحياة الأسرية وقوامها من الاحترام بين الزوجين من عطف ومودة ورحمة, ما هو إلا حديث عن الجمال, ليتحول البيت المسلم إلى حضانة تربوية راقية بكل المعاني, قوامها المودة والرحمة بين شريكين مدى الحياة.
وحديث الإسلام عن تهذيب الإنسان لنفسه وروحه وسموها إلى أعلى الدرجات, ما هو إلا حديث عن رقي مستمر في درجات الكمال والجمال الروحي، والبُعد عن آفات النفس ومساوئها وأدرانها.
لقد أحاط الإسلام تعاليمه بسياج قوي من الجماليات, التي يقبلها العقل وتهواها النفوس السليمة, فمن عرفها عرف حقًّا روعة الإسلام, وهذا هو السر الذي انبهر له الشرق والغرب عند معرفة تعاليم الإسلام بتجرُّد محض.
هذا الجمال الظاهر الذي نجده واقعًا ملموسًا كثمرة نشعر بها, في مجتمع مُتحاب, وأسرة متماسكة, وأخ يشفق على أخيه, وغني يعطف على فقير، حتى صار المجتمع المسلم كما قال r: "... كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
تعاليم الإسلام حق يؤيده نور العقل والمنطق, لكن هذا النور يضعف ويخبو حينما لا يجد تلك اليد التي تنظر في ملامح الجمال الموجود فيه, فتبرزها وتنميها وتخاطب بها أسماع وعقول وقلوب وأعين الآخر بما فيها من روعة تتمثل في اجتماع الحق والجمال والصدق في آنٍ واحد.
ولم يكن الإسلام ليترك تعاليمه محفوفة بالجمال فحسب, بل إن الإسلام جعل شخصية رسول الله r المُبلِّغ لهذه التعاليم تزخر حياته بمعالم الجمال البشري في كل نواحيها, حتى إن البيان ليعجز عن وصف تلك الجماليات التي استطاع رسول الله r أن يجسدها في واقع يراه الناس, لنعيش سيرته العطرة جمالاً راقيًا شهد به القريب والبعيد, فتعامله مع البشر وحُسن خُلقه ووفائه وعفوه وكرمه وأدبه مع القريب والبعيد ومع الصديق والعدو, وعطفه ورحمته وشفقته هي من أروع ملامح الجمال, بل كان في صمته راقيًا، وكان في تأديبه أبًا ومربيًا r.
ولم ينتقل إلى ربه r حتى ربّى أصحابه الكرام على هذا المعنى العظيم وهو "إبراز ملامح الجمال في دعوتهم للناس", فخرجوا في أصقاع الأرض مشاعل للهداية والنور, فما عرفت الأرض لهم ظُلمًا ولا قتلاً ولا جورًا ولا فسادًا, بل كانوا كالماء للظمآن, وكالنور للحيران, فأينما نزلوا رأيت القلوب تُحبهم وتفتح ذراعيها لهم حبًّا وكرامة بهم؛ لأنهم عرفوا مفاتيح القلوب، فآتت أُكُلها كل حين بإذن ربها.
إن خطاب الجمال في الإسلام ليس ترياقًا يُستحال اكتشافه, بل إن إبراز نواحي الجمال في نصوص التشريع أمر يكاد يكون يسيرًا وسهلاً؛ فالحديث عن الشريعة وتلاؤمها مع الحياة الإنسانية, وتحقيقها لمصالح الناس وسعادتهم في الدارين, وتحقيق طيب العيش لهم, هو من أروع ملامح الجمال للتشريع, وإن مخاطبة الناس بنبرة المُشفق والمُنقذ ومريد السعادة الدنيوية والأخروية لهم, هو من أعظم نواحي الجمال في الدعوة, وإن إبراز نتائج التدين والعمل بشريعة الإسلام منهجًا وسلوكًا، قولاً وعملاً في الحياة العملية هو روح الجمال في الإسلام, والسعي لتحويل نصوص الإسلام من بطون الكتب إلى الواقع الذي يعيشه الناس، هو من أعظم الدعوة للجمال الذي نقصده وننشده.
تغيب روعة تعاليم الإسلام كثيرًا عندما تغيب ملامح الجمال فيها, وتصبح تعاليم الإسلام بروعتها وجمالها يتيمة كسيرة لا ناصر لها ولا معين, وتصبح عرضة للأخذ والرد، بل ربما للتكذيب والتحليلات الفاسدة والطرح العقيم, حينما يغيب خطاب الجمال فيها.
إن خطاب عامة الناس عمومًا, والغرب منهم خصوصًا, يحتاج إلى أن تعرض لهم الإسلام بقالب جميل, لا إفراط فيه ولا تفريط, بعيدًا عن النصوص الشرعية المجردة, التي قد يُفتى بها من يطلب الفتوى, أو يُدرَّس بها من يطلب العلم.
إن الناس اليوم اختفى من أمام أعينهم خطاب الجمال في الإسلام, في ظل هذا الزخم الإعلامي الكبير الذي تحدث فيه من يجيد ومن لا يجيد, حتى أصبح الخطاب الإسلامي المتشنج والمتعنت هو السائد في كثير من الأحيان, بل وألصق ظلمًا وجورًا بالإسلام, وما ذاك إلا عندما غاب الجمال عن خطابنا الإسلامي.
التعليقات
إرسال تعليقك