حروب الرِّدَّة:
هذه مجموعة من أشرس الحروب الإسلامية، وكانت خطورتها كبيرة من أكثر من وجه؛ أولًا لأنها كانت بعد قليل من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثانيًا لأنها كانت في أكثر من اتِّجاه في وقت متزامن، وثالثًا لأنها كانت حربًا أهليَّة تدور رحاها بين أفراد في داخل الدولة نفسها، ورابعًا لأن الأعداء الخارجيين المتمثِّلين في فارس والروم كانوا يتربَّصون بالأمَّة، ومن المتوقَّع أن ينقضوا عليها إذا وجدوا فيها اضطرابًا.
أخرج الصديق رضي الله عنه أحد عشر جيشًا في وقت واحد على النحو التالي[1]:
الجيش الأول: بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى قتال المتنبئ طليحة بن خويلد الأسدي في نجد، فإذا فرغ منه توجَّه إلى البطاح حيث مالك بن نويرة في بني تميم.
الجيش الثاني: بقيادة عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه إلى قتال مسيلمة الكذَّاب في بني حنيفة.
الجيش الثالث: بقيادة شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه إلى اليمامة -أيضًا- لدعم جيش عكرمة.
الجيش الرابع: بقيادة طُرَيْفَة بن حاجز السُّلَمِيِّ رضي الله عنه إلى مرتدي بني سليم وهوازن.
الجيش الخامس: بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه يتوجه شمالاً إلى قبائل قضاعة ووديعة والحارث.
الجيش السادس: بقيادة خالد بن سعيد رضي الله عنه إلى مشارف الشام.
الجيش السابع: بقيادة العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه إلى البحرين حيث الحطم بن ضبيعة في مرتدي عبد القيس وقبائل ربيعة.
الجيش الثامن: بقيادة حذيفة بن محصن رضي الله عنه إلى دبا بعمان.
الجيش التاسع: بقيادة عرفجة بن هرثمة رضي الله عنه إلى أهل مهرة.
الجيش العاشر: بقيادة المهاجر بن أبي أمية رضي الله عنه إلى صنعاء باليمن حيث أتباع الأسود العنسي ثم إلى حضرموت.
الجيش الحادي عشر: بقيادة سويد بن مقرن رضي الله عنه إلى تهامة باليمن.
حقَّقت تسعة جيوش النصر على المرتدين، وكان من أهمها انتصار الجيش الأول على طليحة بن خويلد الأسدي في موقعة بزاخة[2]، ثم انتصاره ثانية على بني تميم وقتل مالك بن نويرة[3]. من الجدير بالذكر أن طليحة هرب من القتال، ثم تاب بعد ذلك، واشترك لاحقًا في الفتوح الإسلامية مع المسلمين!
أمَّا الجيشان الثاني والثالث فقد تعرَّضا للهزيمة على يد مسيلمة الكذَّاب[4] مما استدعى توجيه جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمامة لوضع حدٍّ لأزمة المتنبئ مسيلمة، فكانت موقعة اليمامة الشهيرة.
موقعة اليمامة: (آخر 11 وأول 12 هجرية)
من أكبر مواقع الرِّدَّة، ومن أعظمها آثارًا. بلغ الجيش المسلم في هذه الموقعة اثني عشر ألف مقاتل بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، بينما تجاوز مرتدو بني حنيفة أربعين ألفًا[5] بقيادة مسيلمة الكذَّاب. حقَّق المسلمون النصر في البداية، ولكن تغيَّر مسار القتال لاحقًا لصالح المرتدين. اجتهد خالد بن الوليد رضي الله عنه في تدارك الموقف، وقسَّم المسلمين تبعًا لقبائلهم[6] لزيادة الحميَّة في نفوسهم، وأعطى راية المهاجرين لسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، وراية الأنصار لثابت بن قيس رضي الله عنه[7]، وكذلك أعطى رايات لبقية القبائل، كما استنفر حفَّاظ القرآن، وأيضًا حفَّاظ سورة البقرة، وتنادى المسلمون بصيحات مشجِّعة عظيمة.
عن عُرْوَةَ أَنَّ شِعَارَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ كَانَ: يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ[8]. وقال أبو حذيفة رضي الله عنه: «يَا أَهْلَ الْقُرْآِن، زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِالْفِعَالِ»[9]. لعل هذه الدعوات هي التي جعلت القتل في حفظة القرآن في موقعة اليمامة أكثر من غيرهم.
تغيَّر مسار المعركة من جديد لصالح المسلمين، وهرب مسيلمة وجنوده إلى حديقة ذات أسوار عالية، عُرِفَت بعد ذلك بحديقة الموت[10]، وقد أرادوا تجنُّب استمرار القتال، ولكن ألقى المسلمون البراء بن مالك رضي الله عنه بناءً على طلبه إلى داخل الحديقة[11]، ففتحها بعون الله، وكَتَبَ اللهُ له النجاة، وانهمر المسلمون إلى داخل الحديقة، واستحرَّ القتل في الفريقين، وقُتِل في النهاية مسيلمة الكذَّاب على يد وحشي بن حرب[12]، وانهار المرتدُّون، وانتصر المسلمون انتصارًا مهيبًا هزَّ الجزيرة العربية كلها، وثبَّت أركان الدولة المسلمة.
قُتِل من المرتدَّين في هذه الموقعة ما بين أربعة عشر ألفًا[13] إلى عشرين ألفًا[14]، بينما استشهد من المسلمين ألف ومائتان[15]، وهو الرقم الأعظم للشهداء منذ بداية الإسلام. كانت هناك أسماء بارزة، وأعلام كبرى[16]، في هؤلاء الشهداء؛ فكان منهم زيد بن الخطاب، وثابت بن قيس، والطفيل بن عمرو الدوسي، وعبَّاد بن بشر، وأبو دجانة، وأبو حذيفة بن عتبة، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، والْحَكَمُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الْأُمَوِيُّ، وَالسَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَيَزِيدُ بْنُ ثَابِتِ (أَخُو زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ)، وَالسَّائِبُ بْنُ الْعَوَّامِ (أَخُو الزُّبَيْرِ)، وعبد الله بن عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلول، وغيرهم كثير من كبار الصحابة رضي الله عنهم، كما كان منهم الكثير من البدريين. كان من المؤثِّر -أيضًا- في هذه المعركة استشهاد عدد كبير من حفظة القرآن بلغ أربعمائة وخمسين[17]، أو خمسمائة[18]. هذا الفقد الكثيف لحملة القرآن دفع الصديق رضي الله عنه والصحابة إلى خطوة جمع القرآن في مصحف واحد.
[1] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/249، وابن الأثير أبو الحسن: الكامل في التاريخ، 2/203، 204، وابن كثير: البداية والنهاية 9/447.
[2] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 253-361.
[3] ابن الأثير أبو الحسن: الكامل في التاريخ، 2/ 212.
[4] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 281، 282، وابن الأثير أبو الحسن: الكامل في التاريخ، 2/215، وابن كثير: البداية والنهاية، 9/465، 466.
[5] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 272.
[6] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/293.
[7] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 288، وقال ابن الأثير: وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وكانت قبله مع عبد الله بن حفص بن غانم، فقتل، ابن الأثير أبو الحسن: الكامل في التاريخ، 2/ 216.
[8] عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 5/ 232، وابن أبي شيبة: المصنف في الأحاديث والآثار، 6/ 529.
[9] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 291، وابن الأثير أبو الحسن: الكامل في التاريخ، 2/ 217، وابن كثير: البداية والنهاية، 9/468.
[10] البلاذري: فتوح البلدان، ص94.
[11] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 290.
[12] ابن كثير: البداية والنهاية 9/ 334.
[13] وقيل: فَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَحَدِيقَةُ الْمَوْتُ عَشَرَةُ آلافِ مُقَاتِلٍ. انظر: الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 294.
[14] وقيل: وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار من أهل قصبة المدينة يومئذ ثلاثمائة وَسِتُّونَ قَالَ سَهْلٌ: وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ غَيْرِ أهل المدينة والتابعين بإحسان ثلاثمائة من هؤلاء وثلاثمائة من هؤلاء، ستمائة أَوْ يَزِيدُونَ وَقُتِلَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ يَوْمَئِذٍ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ، فَرَمَى بِهَا قَاتلَهُ فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ فِي الْفَضَاءِ بِعَقْرَبَاءِ سَبْعَةُ آلافٍ، وَفِي حَدِيقَةِ الْمَوْتِ سَبْعَةُ آلافٍ، وَفِي الطَّلَبِ نَحْوٌ مِنْهَا. انظر: الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/296، 297، وقال ابن كثير: فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ قُتِلُوا فِي الْحَدِيقَةِ وَفِي الْمَعْرَكَةِ قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ - وَقِيلَ: أَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا - وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِتُّمِائَةٍ - وَقِيلَ: خَمْسُمِائَةٍ - فَاللَّهُ أَعْلَمُ. انظر: ابن كثير: البداية والنهاية، 9/ 470. قال علماء السير: قتل من المسلمين يوم اليمامة أكثر من ألف، وقتل من المشركين نحو عشرين ألفًا. ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 4/ 83.
[15] وقيل: والتقى المسلمون وبنو حنيفة واقتتلوا قتالاً شديداً لم يكن في الإسلام يوماً أشد منه حتى كسروا بنو حنيفة جفون سيوفهم وقتل من المسلمين ألفان ومائتان وجرح أكثر من بقي وقتل زيد بن الخطاب صاحب راية المسلمين. المطهر بن طاهر المقدسي: البدء والتاريخ، 5/ 162. وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِتُّمِائَةٍ - وَقِيلَ: خَمْسُمِائَةٍ - فَاللَّهُ أَعْلَمُ. انظر: ابن كثير: البداية والنهاية، 9/ 470. قال علماء السير: قتل من المسلمين يوم اليمامة أكثر من ألف. ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 4/ 83.
[16] انظر أسماء أشهر الشهداء: خليفة بن خياط: تاريخ خليفة بن خياط، ص111-116، والذهبي: سير أعلام النبلاء، سير الخلفاء الراشدين، ص55-٦١، ابن كثير: البداية والنهاية، 9/ 502-٥٠٥.
[17] عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِ قَالَ: قُتِلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا وَكَانَ جَمِيعُ الْقَتْلَى أَرْبَعَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلا...
وعَنْ سَلامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ شُهَدَاءُ الْيَمَامَةِ خُمْسُمِائَةٍ فِيهِمْ خَمْسُونَ أَوْ ثَلاثُونَ مِنَ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ. انظر: خليفة بن خياط: تاريخ خليفة، ص111، وقال ابن كثير: وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ وَمِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. ابن كثير: البداية والنهاية، 9/ 502.
[18] ابن كثير: البداية والنهاية، 9/ 470، وخليفة بن خياط: تاريخ خليفة، ص111.
http://en.islamstory.com/ar/artical/20234/حروب-الردة
التعليقات
إرسال تعليقك