الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
ثمَّة سؤال كبير يُلِحُّ على العقل الإنساني في كلِّ العصور... إنَّه سؤال الإله! ذلك السؤال الذي تنبع منه أسئلة الكون والوجود والحياة والإنسان والروح- الديانات السماويَّة.
- الديانات الوضعيَّة.
- اللادينيُّون أو الملاحدة.
ثمَّة سؤال كبير يُلِحُّ على العقل الإنساني في كلِّ العصور، نراه في إنتاج المفكِّرين وأدب الأدباء، وشعر الشعراء، وفلسفة الفلاسفة، وهذه الفلسفة تحديدًا نستطيع أن نقول: إنَّها تقوم كلها على هذا السؤال الكبير. إنَّه سؤال الإله! ذلك السؤال الذي تنبع منه أسئلة الكون والوجود والحياة والإنسان والروح والموت والخلود، وما بعد الموت، وما قبل الوجود، فإذا أُجيب على سؤال الإله فقد أُجيب على هذه الأسئلة جميعًا، وإن ظلَّ هذا السؤال مجهولًا ظلَّت هذه الأسئلة تضرب الإنسان بأمواجها المتحيِّرة، التي لا تستقرُّ إلى شاطئ.
ولعلَّ قصيدة "الطلاسم" التي ألَّفها إيليا أبو ماضي بارعةٌ في وصف هذه الحيرة؛ ففيها طرح أسئلة الوجود والحياة والروح والموت والنفس بأسلوب أدبي بسيط وبليغ، وهي قصيدةٌ طويلةٌ نلتقط منها هذه المقاطع:
سؤال الوجود:
جِئْتُ، لا أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ، وَلَكِنِّي أَتَيْتُ |
|
وَلَقَدْ أَبْصَرْتُ قُدَّامِي طَرِيقًا فَمَشَيْتُ |
وَسَأَبْقَى مَاشِيًا إِنْ شِئْتُ هَذَا أَمْ أَبَيْتُ |
|
كَيْفَ جِئْتُ؟ كَيْفَ أَبْصَرْتُ طَرِيقِي؟ |
لَسْتُ أَدْرِي!
أَجَدِيدٌ أَمْ قَدِيمٌ أَنَا فِي هَذَا الْوُجُودْ؟ |
|
هَلْ أَنَا حُرٌّ طَلِيقٌ أَمْ أَسِيرٌ فِي قُيُودْ؟ |
هَلْ أَنَا قَائِدُ نَفْسِي فِي حَيَاتِي أَمْ مَقُودْ؟ |
|
أَتَمَنَّى أَنَّنِي أَدْرِي وَلَكِنْ... |
لَسْتُ أَدْرِي!
...
أَتُرَانِي قَبْلَمَا أَصْبَحْتُ إِنْسَانًا سَوِيَّا |
|
أَتُرَانِي كُنْتُ مَحْوًا أَمْ تُرَانِي كُنْتُ شَيَّا؟ |
أَلِهَذَا اللَّغْزِ حَلٌّ أَمْ سَيَبْقَى أَبَدِيَّا |
|
لَسْتُ أَدْرِي.. وَلِمَاذَا لَسْتُ أَدْرِي؟ |
لَسْتُ أَدْرِي!
سؤال الموت:
أَيُّهَا الْقَبْرُ تَكَلَّمْ، وَأَخْبِرِينِي يَا رِمَامْ |
|
هَلْ طَوَى أَحْلامَكِ الْمَوْتُ وَهَلْ مَاتَ الْغَرَامْ؟ |
مَنْ هُوَ الْمَائِتُ مِنْ عَامٍ وَمِنْ مِلْيُونِ عَامْ |
|
أَيَصِيرُ الْوَقْتُ فِي الأَرْمَاسِ مَحْوًا؟ |
لَسْتُ أَدْرِي!
إِنْ يَكُ الْمَوْتُ رُقَادًا بَعْدَهُ صَحْوٌ طَوِيلْ |
|
فَلِمَاذَا لَيْسَ يَبْقَى صَحْوُنَا هَذَا الْجَمِيلْ؟ |
وَلِمَاذَا الْمَرْءُ لا يَدْرِي مَتَى وَقْتُ الرَّحِيلْ؟ |
|
وَمَتَى يَنْكَشِفُ السِّرُّ فَيَدْرِي؟ |
لَسْتُ أَدْرِي!
...
أَوَرَاءُ الْقَبْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ بَعْثٌ وَنُشُورُ |
|
فَحَيَاةٌ فَخُلُودٌ أَمْ فَنَاءٌ وَدُثُورُ؟ |
أَكَلامُ النَّاسِ صِدْقٌ أَمْ كَلامُ النَّاسِ زُورُ؟ |
|
أَصَحِيحٌ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَدْرِي؟.. |
لَسْتُ أَدْرِي!
سؤال ما بعد الموت:
إِنْ أَكُنْ أُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ جُثْمَانًا وَعَقْلَا |
|
أَتُرَى أُبْعَثُ بَعْضًا أَمْ تُرَى أُبْعَثُ كُلَّا؟ |
أَتُرَى أُبْعَثُ طِفْلًا أَمْ تُرَى أُبْعَثُ كَهْلَا؟ |
|
ثُمَّ هَلْ أَعْرِفُ بَعْدَ الْمَوْتِ ذَاتِي؟ |
لَسْتُ أَدْرِي!
...
سؤال النفس:
إِنَّنِي أَشْهَدُ فِي نَفْسِي صِرَاعًا وَعِرَاكَا |
|
وَأَرَى ذَاتِيَ شَيْطَانًا وَأَحْيَانًا مَلاكَا |
هَلْ أَنَا شَخْصَانِ يَأْبَى هَذَا مَعْ ذَاكَ اشْتِرَاكَا |
|
أَمْ تُرَانِي وَاهِمًا فِيمَا أَرَاهُ؟ |
لَسْتُ أَدْرِي!
بَيْنَمَا قَلْبِيَ يَحْكِي فِي الضُّحَى إِحْدَى الْخَمَائِلْ |
|
فِيهِ أَزْهَارٌ وَأَطْيَارٌ تُغَنِّي وَجَدَاوِلْ |
أَقْبَلَ الْعَصْرُ فَأَمْسَى مُوحِشًا كَالْقَفْرِ قَاحِلْ |
|
كَيْفَ صَارَ الْقَلْبُ رَوْضًا ثُمَّ قَفْرَا؟ |
لَسْتُ أَدْرِي!
...
سؤال الخطأ والصواب:
رُبَّ قُبْحٍ عِنْدَ زَيْدٍ هُوَ حُسْنٌ عِنْدَ بَكْرِ |
|
فَهُمَا ضِدَّانِ فِيهِ وَهْوَ وَهْمٌ عِنْدَ عَمْرِو |
فَمَنِ الصَّادِقُ فِيمَا يَدَّعِيهِ؟ لَيْتَ شِعْرِي |
|
وَلِمَاذَا لَيْسَ لِلْحُسْنِ قِيَاسُ؟ |
لَسْتُ أَدْرِي!
سؤال الخير والشر:
قَدْ رَأَيْتُ الْحُسْنَ يُنْسَى مِثْلَمَا تُنْسَى الْعُيُوبُ |
|
وَطُلُوعُ الشَّمْسِ يُرْجَى مِثْلَمَا يُرْجَى الْغُرُوبُ |
وَرَأَيْتُ الشَّرَّ مِثْلَ الْخَيْرِ يَمْضِي وَيَئُوبُ |
|
فَلِمَاذَا أَحْسَبُ الشَّرَّ دَخِيلَا؟ |
لَسْتُ أَدْرِي!
...
قَدْ يَقِينِي الْخَطَرَ الشَّوْكُ الَّذِي يَجْرَحُ كَفِّي |
|
وَيَكُونُ السُّمُّ فِي الْعِطْرِ الَّذِي يَمْلأُ أَنْفِي |
إِنَّمَا الْوَرْدُ هُوَ الأَفْضَلُ فِي شَرْعِي وَعُرْفِي |
|
وَهْوَ شَرْعٌ كُلُّهُ ظُلْمٌ وَلَكِنْ... |
لَسْتُ أَدْرِي!
....
حاصل الحيرة:
أَنَا لَا أَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ حَيَاتِي الْمَاضِيَةْ |
|
أَنَا لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ حَيَاتِي الآتِيَهْ |
لِيَ ذَاتٌ غَيْرَ أَنِّي لَسْتُ أَدْرِي مَا هِيَهْ |
|
فَمَتَى تَعْرِفُ ذَاتِي كُنْهَ ذَاتِي؟ |
لَسْتُ أَدْرِي!
إِنَّنِي جِئْتُ وَأَمْضِي وَأَنَا لَا أَعْلَمُ |
|
أَنَا لُغْزٌ... وَذَهَابِي كَمَجِيئِي طَلْسَمُ |
وَالَّذِي أَوْجَدَ هَذَا اللُّغْزَ لُغْزٌ مُبْهَمُ |
|
لا تُجَادِلْ ذَا الْحِجَا مَنْ قَالَ إِنِّي... |
لَسْتُ أَدْرِي[1].
***
دون الإجابة عن سؤال الإله تتهاطل أسئلة الحيرة الأبديَّة، التي ستنتهي دائمًا بـ "لست أدري!"، أو لا بُدَّ من إيجاد إجابةٍ أخرى تستطيع أن تُفَسِّر هذا الكون وهذه الحياة وذلك الوجود وتلك النفس، وإذا قُلنا بأنَّ ثَمَّة إله لهذا الكون الكبير، فمن هو؟ وما صفاته؟ وماذا يفعل؟ وما علاقته بهذا الوجود؟.. إلى آخر هذه الأسئلة المحيِّرة.
وفي إطار إجابات الناس على هذه الأسئلة سنجد ثلاث إجاباتٍ كبرى، تضعنا أمام ثلاثة أقسام كبرى هي:
وفي داخل هذه الأقسام نجد اختلافات مُؤَثِّرَة ومحوريَّة، غير أنَّ التصوُّر العامَّ يجمع بينها:
فالديانات السماوية -وهي الإسلام والمسيحيَّة واليهوديَّة- تَتَّفق في أنَّ الإله ذاتٌ قائمٌ بنفسه ليس كمثله شيء، يَتَّصف بالقدرة والقوَّة والعلم والإحاطة، ويُدَبِّر أمر المخلوقات، ويُصرِّف شئون الحياة، وأنَّه اختار من بين عباده رسلًا وأنبياء، وأوحى إليهم كتبًا تُمَثِّل العقيدة الصحيحة، وأنَّه يترك للناس حريَّة الإيمان أو الكفر، ثُمَّ يبعثهم من بعد الموت في حياةٍ أخرى خالدة، فيُنعم على الذين اتَّبعوا العقيدة الصحيحة بالنعيم الخالد، ويُجازي الذين كفروا بهذه العقيدة أو مَنْ لم يَتَّبِعوها -فظلموا وأفسدوا وأجرموا- ما يستحقُّون من عذاب.
وأمَّا الديانات الوضعية فهي تُجيب عن سؤال الإله بأنَّه موجود، غير أنَّها لا تَتَّفق على تصوُّر أبعد من هذا؛ فالإله يُمكن أن يكون رُوح الأسلاف، أو النار أو الشمس أو القمر أو النجوم أو الأوثان، أو المعاني المجرَّدة كالخير والشرِّ والظلمة والنور، أو قد يكون أكثر من إله يَتَّفِقُون أو يتنازعون أو يتقاسمون هذا الكون بصلاحيَّاتٍ لكلٍّ منهم، لكن يجمع بينهم أنَّ لهم معابد وطقوسًا تعبديَّة، ولهم أعياد في أيَّام ذات "قداسة" مميزة، ولهم منظومات فلسفيَّة تُجيب على أسئلة الكون والحياة والوجود، وينبثق عنها منظومةٌ أخلاقيَّة، وغالبًا ما ينبثق عنها -أيضًا- تشريعات وقوانين لا سيَّما في الأحوال الشخصيَّة كالزواج والطلاق وما إلى ذلك.
وأمَّا اللادينيُّون أو الملاحدة فهم الذين يُجيبون بأنَّه لا إله، ويُفَسِّرون الوجود والحياة بتفسيراتٍ ماديَّةٍ تستبعد أيَّ ظواهر ممَّا لا يُدركها الحسُّ؛ كتفسير الصدفة الذي يتوقَّع بأنَّ هذا الكون نشأ بالصدفة، أو بنظريَّة الأزليَّة والأبديَّة حيث تستبعد وجود بدايات أو نهايات لهذا الوجود، أو بغير هذا من النظريَّات التي تستبعد وجود "ما وراء الطبيعة".
وكما تُنْشِئ التصوُّرات الدينيَّة عقائد ومنظومات فلسفيَّة، فإنَّ الاتفاق بين اللادينيِّين في عدم وجود الإله وبالتالي انتفاء وجود الدين، إنَّما هو يُنشئ أيضًا -بالتبعيَّة- عقائد ومنظومات فلسفيَّة، يكون لها أثرها الواضح في التشريعات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، فالإنسان -بطبيعته- لا بُدَّ له من تصوُّرات أو قناعات، وهذه التصوُّرات والقناعات لا بُدَّ أن تنعكس على أعماله وسلوكه.
أقوى الروابط بين البشر
وأيًّا ما كانت الإجابة عن هذا السؤال الفارق الكبير، فإنَّ المجموعات التي اختارت إجابةً واحدةً يتشكَّل بينها ارتباط هو أعمق الارتباطات الموجودة في الكيان البشري، ولهذا اخترنا له اسم "المشترك الأسمى"؛ حيث لا تبلغ رابطةٌ أخرى بين مجموعةٍ من البشر من القوَّة والمتانة مثل ما تبلغه بينهما رابطة الدين.
وكلَّما اتفق الناس في تفاصيل الإجابة كان ارتباطهم أقوى وأمتن وأسمى، وكان الاعتداء على هذا الرباط من أخطر الأشياء التي تُنشئ توترات وأزمات دائمة؛ فأتباع الديانات السماويَّة أقرب بعضهم إلى بعض من أتباع الديانات الوضعيَّة ومن اللادينيِّين، فحتى في ظلِّ التوتُّرات الحاليَّة بين الغرب "المسيحي" والشرق "الإسلامي" يتَّخذ المسلمون الذين يعيشون في العالم الغربي جانب الأحزاب المسيحيَّة في كثيرٍ من الأحيان؛ ذلك أنَّ ثمَّة اتفاقًا على كثيرٍ من الأمور الأخلاقيَّة المشتركة بين الدينيِّين يُمثِّل تهديدها شيئًا غير مقبول من كليهما؛ مثل: إباحة الشذوذ الجنسي، وزواج المثليِّين.. وما إلى ذلك.
وأتباع الديانات الوضعيَّة أقرب إلى بعضهم أيضًا، على خلافٍ واسعٍ في التفاصيل والتنويعات والطقوس والشعائر، إلَّا إنَّهم ككيانٍ عامٍّ لا يقبلون اللَّادينيِّين، كما لا ينسجمون مع أتباع الديانات السماويَّة.
واللادينيُّون مثل هذا، فإنَّهم ينظرون إلى أصحاب الديانات نظرة المتعلِّم إلى الجاهل، والمتحضِّر إلى المتخلِّف، وصاحب العلم إلى صاحب الخرافة، وثَمَّة احترام يُوليه كلُّ لاديني نحو المتَّفق معه في أنَّ الأديان خرافة، وأنَّها من صنع البشر، أو من صنع حكَّامهم الطواغيت في العصور السحيقة؛ ليسهل من خلالها السيطرة على الناس، وتسخيرهم نحو رغباته ولذَّاته الخاصَّة.
هذا الارتباط العام القائم يزداد متانةً ورسوخًا وقوَّةً كلَّما كان الاتفاق قائمًا في التفاصيل داخل هذه الأقسام الكبرى؛ ففي الديانات السماويَّة نجد المسلمين والمسيحيِّين واليهود، وكل منهم أقرب إلى المتَّفق معه في الدين من المخالف له؛ بل تجمعهما رابطةٌ قويَّةٌ ومتينة، كذلك الديانات الوضعيَّة؛ فالبوذيُّون والهندوس والكونفوشيوسيُّون والصابئة و.. و.. إلى آخر هذه الأديان، كلٌّ من هؤلاء يرتبط بالمتَّفق معه في العقيدة -التي هي إجابة أكثر تفصيلًا وتحديدًا عن غيرها من الإجابات على سؤال الإله- رابطةً أقوى وأمتن من رابطته مع ما سواه. وعند اللادينيِّين يتكرَّر الأمر، فالذين يعتنقون فكرة النشوء والارتقاء والتطوُّر أقرب إلى بعضهم ممَّن يرى بأنَّ الكون نشأ بالصدفة، وهؤلاء أقرب إلى بعضهم ممَّن يرى بأنَّ الكون خلقه إله لكنَّه تركه ولم يحفل به، ثُمَّ هؤلاء أقرب إلى بعضهم ممَّن يعتنق تفسيرات أخرى.
وكلَّما أوغلنا في التفاصيل نشأت روابط أكثر قوَّة ومتانة؛ إذ يتَّفق المذهب في داخل الدين، فبالنسبة إلى المسلمين يُكَوِّن السُّنَّة رابطة أمتن، وكذلك الشيعة، ثُمَّ في داخل الشيعة والسُّنَّة مذاهب فقهيَّة تفصيليَّة تنشأ بين أتباعها روابط أكثر قوَّة وأكثر صلابة، وبالنسبة إلى المسيحيِّين نجد الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، وفي التفاصيل روابط أكثر قوَّة كذلك، وكذلك بالنسبة إلى اليهود.
والخلاصة المستنتجة من كلِّ هذا أنَّ رابطة الدين أقوى من غيرها من الروابط، كما أنَّ رابطة العقيدة أقوى من رابطة الدين، كما أنَّ رابطة المذهب هي إضافةٌ أخرى للقوَّة في رابطة العقيدة، ثُمَّ الاتفاق في المدرسة داخل المذهب قوَّة جديدة تُضاف إلى قوَّة هذه الروابط.. وهكذا.
هذه الرابطة هي أقوى أنواع الروابط، وأقوى أنواع التوحُّد، ويُمكنها أن تجمع فيما بينها أناسًا لا يشتركون في شيء، اللهمَّ إلَّا في المشتركات الإنسانيَّة العامَّة، فتصنع بينهم رابطة تتحدَّى الانفصام، وتُمثِّل محورًا تلتقي عنده مشاعر التقارب والتوحُّد والتعاطف والتناصر والتعاون.
وإنَّنا لنُدرك ببساطة تعاطف أصحاب الدين الواحد مع بعضهم، مهما تباعدت بينهم باقي الروابط؛ فالاعتداء على المسلم في إندونيسيا أو الصين -وهما في أقصى الشرق- يُثير المسلمين في المغرب والجزائر وهما في أقصى الغرب، وكذلك إذا وقع اضطهاد للمسيحيِّين أو اليهود أو الهندوس في أيِّ مكان، فإنَّ هذا يُشعل ويُثير مناطق أخرى أبعد ما تكون عن منطقة الأزمة، لا يُشعلها ولا يُثيرها إلَّا رابطة الدين.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] راجع نص القصيدة كاملة في: إيليا أبو ماضي: ديوان إيليا أبي ماضي، ص191، وما بعدها.
التعليقات
إرسال تعليقك