د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
بنو قينقاع وبيت حانون والبون الشاسع مقال بقلم د. راغب السرجاني، يربط فيه بين أحداث بيت حانون في غزة وغزوة بني قينقاع، فما هو؟ وما موقف المسلمين من اليهود
كلما رأيت تبجحًا من اليهود، وتطاولاً منهم عادت ذاكرتي بسرعة إلى سيرة الهادي لهذه الأمة، بل
الهادي للعالمين رسول الله r؛ فعند الحيرة في التحليل أو أخذ القرار نعود إلى المواقف المتشابهة في السيرة لنخرج بالرأي الأصوب, والقرار الأحكم.
والآن ونحن نستمع لأخبار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وخاصةً بلدة بيت حانون؛ حيث تجتاح قوات الاحتلال الإسرائيلي البلدة ضمن مخطط لاجتياح أجزاء من قطاع غزة قد تشمل فيما بعد رفح وغيرها؛ وذلك -كما يرى المحللون- بهدف إخضاع الفلسطينيين بقوة السلاح، وإسقاط الحكومة الفلسطينية، إلى جانب الضغط على الفصائل التي تأسر الجندي الإسرائيلي (جلعاد شاليط) من أجل إطلاق سراحه.
أقول: ونحن نستمع لهذه الأخبار الدامية التي تؤذي أسماعنا بأنباء مقتل ما يقارب الثمانين شهيدًا, ومائتي جريحٍ، تعود بنا الذاكرة إلى حدثٍ من أحداث السيرة هو أقل مما يحدث في بيت حانون بعشرات المرات, ولكن سنرى كيف تصرَّف الرسول r معه؛ لندرك الفارق بين المفروض الذي يجب أن يحدث والواقع الذي نعيشه الآن، وندرك البون الشاسع الذي يفصلنا عن عصر الرجولة والنخوة.
قبيلة بني قينقاع كانت من القبائل اليهودية القاطنة في المدينة المنورة، والتي ارتبطت بمعاهدة مع الرسول r والمسلمين. وبعد غزوة بدر، وانتصار المسلمين على قريش بفضل الله ومِنَّته، انفجرت براكين العداوة في صدور يهود بني قينقاع، وجاهروا الرسول بالعداوة، بل وأقدموا على جريمة نكراء؛ حيث راود صائغ يهودي في سوق بني قينقاع امرأةً مسلمةً عن كشف وجهها أثناء شرائها مصاغًا منه، فلما أَبَتْ ربط بعضهم طرف ثوبها بخمارها -دون أن تشعر- فلما قامت انكشفت عورتها، فصرخت، فجاء مسلم وقتل التاجر اليهودي؛ فتعاون اليهود على قتل المسلم، وانتهى الأمر بحصار الرسول r لهم.
وبدأ الحصار في يوم السبت نصف شوال سنة 2هـ، بعد أقل من شهر من غزوة بدر الكبرى، وظل r محاصرًا لبني قينقاع أسبوعين كاملين، إلى أن ظهر هلال ذي القعدة، وقذف الله U الرعب في قلوب اليهود، فنزلوا على حكم الرسول r، وكان حكمه r في ذلك الوقت هو قتلهم لهذه المخالفة الشنيعة التي فعلوها، ليس لكشف وجه المرأة المسلمة، ولا لقتل المسلم فقط، لكنها تراكمات طويلة؛ فهم منذ أن دخل الرسول r وهم في مخالفات مستمرة وسب علنيٍّ لله ولرسوله الكريم r وللصحابة، وإثارة الفتن بين المسلمين، فكان لا بد من وقفة معهم.
إن من طبائع اليهود الثابتة التي لا ينفكون عنها بحالٍ من الأحوال؛ التطاول الدائم، واتخاذ المواقف المعادية كلما زاد سكوت المسلمين عن تعدياتهم، وقد رأينا هذا من اليهود قديمًا وحديثًا، وسنظل نراه منهم إلى يوم القيامة.
رأينا في العصر الحديث عندما خالف اليهود القوانين الإسلامية، وبدءوا بالهجرة إلى فلسطين مع أن هذا الأمر كان ممنوعًا عليهم، ولكن لأن المسلمين سكتوا عن هذا الأمر تملَّك اليهود الاقتصاد الفلسطيني في داخل فلسطين، ثم جلبوا السلاح الخفيف ثم الثقيل، وبعدها أنشئوا إسرائيل سنة 1948م، ثم حرب 1956م، و1967م، و1982م في لبنان، وأخيرًا حرب لبنان 2006م كما تابعنا جميعًا؛ فكلما سكت المسلمون -إذن- تعدَّى اليهود تعدِّيًا أكبر وأخطر.
كنا في الماضي نطالب بالعودة إلى حدود التقسيم، ثم بعد ذلك نطالب بالعودة إلى حدود 67، ثم نطالب بالعودة إلى حدود انتفاضة 2000م، وإذا كان اليهود اليوم يقيمون جدارًا عازلاً، فإننا ربما نطالب في المستقبل بالعودة إلى حدود الجدار العازل؛ فهذا التساهل مع اليهود هو الذي أَدَّى إلى ما آلت إليه أحوالنا اليوم، هو ما أدَّى إلى الاعتداءات المتكررة التي أصبحت لا تلفت أنظار أحد من المسلمين، هو ما أدى لتكرار الاجتياحات، وتدمير البنية التحتية الفلسطينية، وأهم من ذلك إراقة دماء آلاف الشهداء المسلمين في فلسطين.
إن أحداث بيت حانون دليل واضح على تخاذل المسلمين الذي بدأ منذ عقود، وهذا التخاذل هو الرابط العكسي بين أحداث بيت حانون وغزوة بني قينقاع؛ إذ تجنب رسول الله r كل هذه المآسي، وأخذ قرارًا سريعًا وحاسمًا بحصار بني قينقاع، ومعاقبتهم بالقتل جزاءً وفاقًا لولا ما حدث من تدخل رأس النفاق عبد الله بن أُبَيّ بن سلول الذي ألح على النبي r في أن يهبهم له ويعفو عنهم، فوافق الرسول r، ولكن أمرهم بالخروج، فخرجوا إلى الشام، وهلكوا هناك، بينما أدى بنا التخاذل إلى الصمت، بل والمشاركة من البعض بالموافقة وغض الطرف من أجل إسقاط الحكومة الفلسطينية الإسلامية غير المرغوب فيها من هذا البعض.
فأين تحرُّك المسلمين من هذه المأساة الدامية؟!
إن الإسلام يفرض علينا أن نهب لنصرة إخواننا ضد عدوان غاصب مدمر، يستقوى بأعداء آخرين أشد بطشاً، يمددونه بالسلاح والأموال والتأييد {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75].
كيف لا نتحرك لوقف العدوان على إخواننا، ونحن نرى القنابل العنقودية وغيرها تدك بيوت الأبرياء العزل فتحيلها حُطامًا، وتمزق أجسادهم؟!
قد يتكاسل البعض أو يجبن، ثم يعتذر بأن قوة اليهود طاغية وقوة المسلمين ضعيفة، ولكن النبي r هاجم اليهود وحاصرهم وأجلاهم بعدما كاد يقتلهم ويفنيهم, وقد كانوا في غاية القوة حتى إنهم قالوا له: "يَا مُحَمَّدُ، لاَ يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ (يقصدون في بدر) كَانُوا أَغْمَارًا لاَ يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ، وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا". لقد جمع r الصحابة بعدما بلغه غدر بني قينقاع، وجهَّز جيشًا وانتقل سريعًا إلى حصونهم، وحاصر r الحصون وفي داخلها بنو قينقاع، وأصرَّ r على استكمال الحصار حتى ينزل اليهود على أمره r.
وقد حرَّك الرسول r هذا الجيش بكاملة من أجل أن امرأة واحدة كُشفت عورتها، وما يؤلمني كثيرًا ليس ما أرى من كشف عورات المسلمات في بقاع الأرض فقط، ولكن أن تُنتَهَك الحرماتُ إلى درجة القتل، وإلى درجة الاعتداء على المرأة المسلمة، وإلى أمور يستحي الإنسان من ذكرها، يحدث هذا كله وجيوش المسلمين تغطُّ في نومها!!
ونلاحظ في موقف النبي فقط مدى عزة وكرامة الدولة الإسلامية، فقد حدث نوع من الامتهان لهذه الكرامة بهذه العملية الفاجرة من اليهود؛ فأخذ النبي فقط الأمر بمنتهى الجدّية، وانتقل بجيشه إلى حصار بني قينقاع مع احتمال إسالة دماء كثيرة، نتيجة القتال مع بني قينقاع وهم من أصحاب السلاح والقلاع والحصون والبأس الشديد في الحرب، وقد رأى رسول الله r أن كل هذا -رغم قيمته- ثمن بسيط للغاية في مقابل حفظ كرامة الدولة الإسلامية.
أما في وقتنا الحاضر فما أكثر أبناء سلول الذين يضعون أيديهم في أيدي اليهود، ويريدون منع المسلمين من الثأر والقصاص! فهل نستجيب لهم؟ وهل قد ماتت النخوة فينا؟!
التعليقات
إرسال تعليقك